زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
حمدي شفيق
أعداء الإسلام "ومنذ بزوغ فجره وحتى اليوم" يحاولون باستماتة النيل منه والطعن فيه باستغلال تعدد زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -..
زعموا أن نبي الإسلام كان منصرفا إلى إشباع شهوته بالتقلّب في أحضان تسع نساء! قالها يهود يثرب من قبل (1).. فرد عليهم القرآن الكريم ردا بليغا، وبيّن أنهم فعلوا ذلك حسدا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، على الرغم من أن إخوته إبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وسليمان وغيرهم - عليهم السلام - كان لكل منهم العديد من الزوجات، وكان لداود وسليمان - تحديدا - أضعاف ما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من الزوجات والجواري.
ومازال المستشرقون في الخارج والعلمانيون واليساريون في الداخل يتطاولون بوقاحة على المقام الشريف والسنة المطهرة، كيدا منهم لهذا الدين، والله يحفظه رغم أنوفهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وهناك آخرون لا يعلمون بواعث تعدد زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. ومن يطالع السيرة العطرة سوف يكتشف بسهولة أن بعض هذه الزيجات كان في المقام الأول تلبية لدوافع إنسانية، والبعض الآخر كان لتأليف القلوب، وتطييب النفوس، وتمهيد الأرض للدعوة المباركة بالمصاهرة وجبر الخاطر، ولا ننسى أيضا حقه الطبيعي - صلى الله عليه وسلم - في الزواج، لأنه بشر مثلنا وليس من الملائكة.
وكل الزيجات كانت لحكم عظيمة وللتشريع وتعليم الأمّة كما سنوضح بالتفصيل فيما بعد، وزوجة واحدة لم تكن لتقدر على نقل كل سنّته الشريفة، وسائر أحواله داخل بيته إلى الأمة لتقتدي به، فكان لزاما أن تتعدّد زوجاته - صلى الله عليه وسلم -، ليعلّمن البشرية كلها بعد وفاته كل ما لم يطّلع عليه غيرهن، والدليل الواضح هنا أن أكثر زوجاته علما ورواية -وهى السيدة عائشة - رضي الله عنها - لم ترو عنه إلا حوالي ألفى حديث، ورغم أن هذا رقم كبير، إلا أنه ليس إلا قطرة من بحر السنّة المطهّرة، فالمتداول في كتب السنن يبلغ عشرات - بل مئات - الألوف من الأحاديث الشريفة، ولم يكن كافيا- إذن- زوجة واحدة ولا صحابي واحد لحفظ ونقل هذه الثروة الهائلة من كنوز الحديث النبوي إلى العالمين.
إنه عمل هائل جبار احتاج إلى فريق كبير ضم ألوفا من أكابر علماء الصحابة، ثم الألوف من علماء التابعين، ثم الألوف من علماء تابعي التابعين ومن بعدهم على مرّ العصور، فهل كانت تطيقه امرأة واحدة؟!
ثم نتساءل: ألا يحتاج الرجل الشهواني إلى خلو البال من أية مشاغل أو هموم أو أعباء ليمارس الجماع بإفراط كما يزعمون؟! فهل يظن أولئك الحمقى أن أعباء الرسالة العظمى والجهاد المتواصل ليل نهار- لإبلاغ الدعوة المباركة إلى الناس كافة عربا وعجما- تترك لصاحبها مجالا للإكثار من الجماع على النحو الذي تتخيّله عقولهم المريضة؟!..
ألا تتطلب الشهوة توافر الطعام الجيد والفراش الناعم المريح ليقدر الزوج على الجماع الكثير؟ فهل كان ذلك متاحا لسيد الخلق - صلى الله عليه وسلم -؟!..
ألم تُجمع كل كتب السيرة والتاريخ بما فيها تلك التي كتبها المنصفون من غير المسلمين- أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يشبع من خبز الشعير حتى لقي ربه؟!.
أين الاستكثار من الشهوات في حياة زاهد متقشف بإجماع المؤرخين كان أهله لا يوقدون نارا لطهي الطعام في بيته الشهر تلو الشهر، ولم يكن لهم من قوت معظم الوقت إلا الأسودان التمر والماء كما روت سيدتنا عائشة - رضي الله عنها -؟!.
وكانت حجراته مبنيّة من الطين وسقوفها من - سعف جريد النخيل وأبوابها من الشعر وبر الإبل أو شعر الماعز - وكان - عليه السلام - ينام على حصير متواضع ترك أثرا في خده الشريف حتى بكى عمر رضي الله عنه- إشفاقا عليه - عندما رآه على هذا الحال؟! فهل هذا شأن من تشغله الشهوات وحطام الحياة الفانية؟! (1).
ثم من أين له بالوقت اللازم للجماع المتواصل -كما يزعمون - وهو الذي كان مشغولا دائما بأعباء الرسالة نهارا، مع الصيام أكثر الأيام، وليلا بالقيام لرب الأنام، إلى أن تتورم منه ومن زوجاته - الأقدام، عليه أزكى الصلاة و أعطر السلام؟!..
وأقوى دليل على ما نقول: إن أمهات المؤمنين غلبهن الطابع البشرى ذات مرة - بعد أن اشتدّ عليهن الحرمان والفقر والتقشف - فطالبنه - صلى الله عليه وسلم - بالنفقة، فاعتزلهن - عليه السلام - شهرا، ونزل فيهن قوله - تعالى -: (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) سورة الأحزاب الآية 28..
فأخبرهن - صلى الله عليه وسلم - بما نزل، وخيّرهن بين الطلاق مع كل التكريم وإعطائهن نفقة المتعة والعدة أو البقاء معه على ما هو فيه من زهد وتقشف وحياة فقيرة قاسية، فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة(2).
ومن المعلوم أن الزواج هو شريعة كل أنبياء الله حتى من لم يتزوج منهم مثل عيسى ويحيى - عليهما السلام - وأنه لا يوجد نص في الأناجيل الأربعة يحظر تعدد الزوجات.
ومن استعراض تراجم أمهات المؤمنين في المصادر المختلفة نلاحظ أن إحدى عشر منهن كن من الأرامل! وواحدة كانت مطلّقة- زينب بنت جحش - وواحدة كانت جارية قبل اقترانها بسيد البشر مارية - ولم تكن بينهن " بكرا" سوى أمّنا عائشة التي كانت تفخر على الأخريات بذلك كما هو معلوم من كتب السيرة (3).
فهل يتزوج صاحب الشهوات عشرا من الأرامل ومطلّقة وجارية، ويترك مئات الألوف من العذارى في جزيرة العرب وما حولها، وقد كانت جميع القبائل تعرض عليه بناتها - حرصا على شرف مصاهرته - كما ثبت من كل مراجع السيرة؟!.
ولو أنه كان ذلك الشخص الذي يزعمون لسارع بانتهاز فرصة ما عرضه المشركون عليه في مكة من قبل، وهو أن يجعلوه ملكا عليهم، و يجمعوا له من الأموال والنساء ما يشاء حتى يكون أغناهم وأكثرهم نساء بشرط أن يتخلى عن دعوته إلى الله، لكنه - عليه السلام - رفض تماما لأنه صاحب رسالة وليس طالب دنيا..
ولنبدأ الآن بأولى زوجات المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهى سيدتنا خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - وأرضاها فقد تزوّجت في الجاهلية من هند بن النباش التميمى وكنيته أبو هالة.. وبعد موته تزوّجت عتيق بن عابد المخزومى(4).. ثم مات عنها عتيق.. وكانت من أرفع بيوت قريش وأوسطها نسبا وحسبا، وكان لها مال ترسل رجالا من قومها يتاجرون لها فيه.. ولما سمعت بأمانة محمد - عليه الصلاة والسلام - أرسلت إليه ليتاجر لها في مالها، على أن تعطيه ضعف ما كانت تعطى غيره من الأجر.
ورحل - صلى الله عليه وسلم - بمالها مع غلامها ميسرة إلى الشام، فباع واشترى وعاد إلى مكة بأضعاف ما كانت تربح من قبل.. وأعطته السيدة خديجة ضعف الأجر المتفق عليه.. وحكى لها ميسرة ما كان من معجزاته - عليه السلام - خلال الرحلة: فقد أظلّته غمامة، وأخبر أحد الرهبان ميسرة بأن رفيقه محمدا سيكون النبي الخاتم الذي بشّرت به كتب السابقين، فازدادت إعجابا به، وأرسلت إليه صديقتها نفيسة بنت منية تعرض عليه الزواج من خديجة التي كان عمرها في ذلك الوقت أربعين سنة.. فوافق - عليه السلام -، وكان عمره وقت أن تزوجها خمسا وعشرين سنة.
وولدت له السيدة خديجة كل أولاده وبناته باستثناء إبراهيم ولده من مارية القبطية "الجارية التي أهداها المقوقس إلى النبي" ولم يتزوج - صلى الله عليه وسلم - بأخرى حتى ماتت السيدة خديجة عن خمس وستين سنة، بينما كان - عليه السلام - قد تخطى الخمسين سنة، ولم يتزوج بعدها إلى أن بلغ السنة الثالثة أو الرابعة والخمسين من عمره الشريف.
والآن نتساءل: إذا كان نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - قد عاش بلا زواج حتى سن الخامسة والعشرين.. ولم يكن أهل مكة يعرفون عنه إلا كل نبل وشرف و خير، وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين.. وكانت طهارته وعفته مضرب الأمثال باعتراف أعتي المشركين وأشدهم عداوة له وحقدا عليه.. وإذا كان تزوج بعد ذلك من السيدة خديجة وهى أرملة أكبر منه بخمس عشرة سنة، وظل مكتفيا بها زوجة وحيدة حتى ماتت بعد أن تجاوزت الخامسة والستين، وتجاوز هو الثالثة والخمسين من عمره الشريف.. فأين ما يزعمون من حبه للشهوات واستكثاره من النساء؟! وهل يصبر الرجل الشهواني على هذا الوضع مع أرملة عجوز، ويظل بلا زواج من أخرى حتى تفنى سنوات شبابه على هذا النحو؟!.
لقد كان - عليه السلام - في تلك الفترة في ريعان شبابه، ولم يكن قد انشغل بعد بأعباء الدعوة المباركة وتبعاتها الثقيلة، ولو كان كما يزعم أعداء الإسلام من ذوى الشهوة الطاغية لتزوج من شاء من النساء، وقد كان تعدد الزوجات والجواري شائعا في الجاهلية بلا قيد كما ذكرنا، وما كان ذلك عيبا ولا محظورا عند أحد(5).
فلماذا لم يفعل - صلى الله عليه وسلم -؟! أليس هذا دليلا على أنه - صلى الله عليه وسلم - قد عدّد زوجاته فيما بعد لأسباب أخرى أسمى وأنبل من مجرد إشباع الشهوة، رغم أن هذا الإشباع بالزواج ليس عيبا ولا شائنا عند الجميع؟! وهناك نقطة أخرى، لقد كان - عليه السلام - يذكر السيدة خديجة بكل الخير والوفاء بعد موتها.. وحتى بعد أن صار له نسوة غيرها.. كان يغضب إذا أساءت عائشة- أحب زوجاته - إلى ذكراها العطرة، ويذكر - عليه السلام - في كل مناسبة معروف خديجة وفضلها عليه وعلى الدعوة الغراء، ولم ينسها رغم أنها كانت عجوزا، ورزق بعدها بزوجات أصغر سنّا، وربما أكثر جمالا.. مثل هذا الزوج هل يمكن أن يقال عنه: إنه يضع الشهوة الجنسية في المقام الأول؟!..
وهل يصدق مثل هذا الظن المريض بمن قال فيه ربه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [سورة القلم الآية 4].
وكذلك شاء الله - تعالى - أن تتعلم البشرية الكثير من هذه الزيجة المباركة، فقد أرست مبدأ إباحة زواج الرجل بمن هي أكبر منه سنّا، و زواج المرأة بمن هو أصغر منها سنّا، وكذلك عدم الاعتداد بالتفاوت بين الجانبين في الثراء المادي، وكانت سعادتهما معا دليلا واضحا على أن العبرة في تحقيق السعادة الزوجية هي بالصلاح والمودة والتراحم والتفاهم والانسجام والتعاون المثمر لخير الجميع، ولا قيمة للمال أو عمر أحد الطرفين أو أي عامل دنيوي آخر.
وكذلك علّمت أمنا خديجة النساء وأوليائهن جميعا أنه لا عيب ولا مكروه في أن تخطب المرأة الرجل الصالح لنفسها ولو لم يفاتحها هو أولا، وذلك بأن ترسل إليه من تثق بأمانته في نقل الرغبة في الزواج كما فعلت هي، كما تعلّم الجميع جيلا وراء جيل- أنه لا غضاضة في أن يقيم الرجل مع زوجته في بيتها إن كان ذلك بالتراضي.
وأهم من كل ذلك أنها كانت أول من أسلم لله الواحد الأحد، وعلّمت نساء العالمين كيف تساند المرأة الصالحة زوجها العظيم صاحب الرسالة بنفسها ومالها وأهلها، وكيف تثبّت فؤاده وتهدّئ من روعه، وتعينه على التفرّغ لرسالته العظمى، ولا تشغله بتوافه الأمور المنزلية أو المعيشية عما هو أسمى وأبقى وأنفع للبشرية كلها.
وقد اشترت - رضي الله عنها - عشرات من العبيد الذين كانوا يقاسون الأهوال من سادتهم طواغيت الشرك عقابا لهم على دخولهم في الإسلام، وأعتقتهم لتنقذهم من هذا البلاء، وأنفقت كل ثروتها في سبيل الله.. ولهذا أبلغ سيدنا جبريل النبي- صلى الله عليه وسلم - السلام من الله عليها، وبشّرها بالجنّة - رضي الله عنها وأرضاها- (6).
ونأتي إلى ظروف اقترانه بثانية زوجاته السيدة سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - فقد كانت متزوجة في الجاهلية بالسكران بن عمرو بن عبد شمس، وهو ابن عمها، وأسلما بمكة وخرجا مهاجرين إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية.. ثم قدما من الحبشة، ومات السكران بمكة، وترملت زوجته السيدة سودة، فلما انقضت عدتها أرسل لها النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطبها وتزوّجها بمكة، وهاجرت معه إلى المدينة.
وكانت - رضي الله عنها - قد كبرت سنها، وبعد فترة من زواج الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها تنازلت عن ليلتها للسيدة عائشة، وقالت كما جاء في إحدى الروايات: يا رسول الله، والله ما بي حب الرجال تقصد أنها مسنّة وليست بها حاجة إلى الرجال ولكني أرجو أن أبعث في أزواجك يوم القيامة. وقبل منها النبي - صلى الله عليه وسلم - تنازلها للسيدة عائشة، وأبقى عليها زوجة في عصمته حتى موته - صلى الله عليه وسلم - (7)..
فهل يكون اقترانه - عليه الصلاة والسلام - بعجوز أخرى دليلا على ما يذهب إليه أعداء الله ورسوله من أن تعدد زوجاته - صلى الله عليه وسلم - كان للشهوة أو حب النساء؟!! أم أنها مواساة منه - عليه السلام - لأرملة مسلمة لم يعد لها عائل بعد موت رجلها المسلم السابق إلى الإسلام ثم المهاجر والمجاهد- وليس لها مال أو شباب أو جمال يدفع غيره - صلى الله عليه وسلم - للزواج منها؟!!..
أليس من المروءة والنبل أن يكرم صاحب الخلق العظيم تلك المؤمنة السابقة إلى الإسلام والهجرة إلى الحبشة بعد أن تبدّل بها الحال ومضى عنها الزوج والمال والشباب والجمال؟!
والله إن مثل هذه الزيجة التي لا يطمع فيها أحد هي بعض أعبائه - عليه السلام -، وواجب ثقيل ألزم به نفسه الشريفة النبيلة - صلى الله عليه وسلم - ومن سواه يواسى الأرملة الفقيرة الحزينة؟ من سواه يجبر المكسور، ويفك الأسير، ويعين على شدائد الدهر، وهو الذي أرسله ربه رحمة للعالمين؟!
وفي ذات الوقت يعلّم - صلى الله عليه وسلم - البشرية كلها كيف تكون رعاية الضعفاء في المجتمع بكفالة الأرامل، والزواج بهن هو أكرم وأطهر السبل لرعايتهن وأطفالهن.
وأما السيدة عائشة بنت الصديق أبى بكر - رضي الله عنهما - فهي الزوجة الثالثة لنبي الهدى - صلى الله عليه وسلم -.. ومن الطبيعي أن يرتبط الداعية بالرجال الذين يقوم على أكتافهم البناء العظيم، وتنتشر الدعوة بهم، ومن خلالهم إلى سائر إرجاء المعمورة.. وخير الروابط بين النبي وكبار أصحابه هو الرباط المقدس (الزواج).. ولهذا تزوّج - عليه السلام - من السيدة عائشة، دعما للأخوة الخالدة مع الصدّيق- ثاني اثنين في الغار- وكانت صغيرة السن.
وهنا أيضا تتعلّم البشرية درسا أخر هو إباحة زواج الرجل بمن هي أصغر منه سنّا بكثير، وإباحة زواج المرأة بمن يكبرها سنّا أيضا، فالعبرة في تحقيق السعادة الزوجية ليست بالسن، كما ذكرنا عند الكلام على زواجه - عليه السلام - من السيدة خديجة - رضي الله عنها -، وكذلك جعل الله - تعالى -في السيدة عائشة خيرا كثيرا للبشرية كلها، إذ كانت أحد أعظم أوعية العلم النبوي الشريف، وروت أكثر من ألفى حديث، وكان أكابر الصحابة يتعلمون منها، وبسببها نزلت آيات كثيرة تتلى إلى يوم القيامة بما فيها من أحكام عظيمة.
كما تزوج أيضا لذات السبب- تقوية الروابط مع أصحابه- من السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما -.. وهناك سبب ثان لزواجه - صلى الله عليه وسلم - من السيدة حفصة، فقد كانت متزوّجة قبله من خنيس بن حذافة السهمي الذي أسلم معها وهاجر بها إلى المدينة فمات عنها (عند قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة أحد) متأثرا بإصابته في الغزوة (
وعندما انقضت عدّتها عرض عمر على أبى بكر الصديق أن يزوّجه ابنته حفصة، فسكت أبو بكر، مما أغضب عمر رضي الله عن الجميع وكان عمر قد عرضها من قبل على عثمان بن عفان فلم يوافق كذلك، مما أسخط الفاروق عليه كما سخط على صاحبه، فجاء عمر يشكوهما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -..
وطيّب - صلى الله عليه وسلم - خاطره وتزوّجها تكريما لعمر، كما كرّم أبا بكر من قبل وتزوج بابنته عائشة، وكان في الزيجة تكريم أيضا للزوج الشهيد خنيس - رضي الله عنه - برعاية أرملته من بعده.
وكان الباعث لأبى بكر على عدم قبول الزواج من حفصة أنه سمع - صلى الله عليه وسلم - يذكرها لنفسه، وما كان الصدّيق ليفشى سر رسول الله، أو يتزوّج بمن عزم - صلى الله عليه وسلم - على الزواج منها..
ومن المعروف أن السيدة حفصة - رضي الله عنها - لم تكن جميلة مثل عائشة أو صفيّة أو جويرية، لكنها كانت صوّامة قوّامة (9) تحب الله ورسوله (10).
فهل يكون الزواج في حالة السيدة عائشة والسيدة حفصة استكثارا من النساء، أو جريا وراء الشهوات؟!! أم هي ضرورات الدعوة، وجبر الخاطر، وتوكيد الروابط بين المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وكبار رجال الدعوة الوليدة
والرأفة بزوجة شهيد مثل حفصة لم يكن لها من الجمال أو المال ما يغرى غيره - عليه السلام - بالزواج منها؟! إنه الرحمة المهداة، والنعمة المسداة - عليه الصلاة والسلام -..
هناك أيضا ظروف زواج الرسول الأمين من السيدة زينب بنت خزيمة الملقّبة بأم المساكين - رضي الله عنها - فقد كانت زوجة لابن عمه عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف - رضي الله عنه - الذي استشهد يوم بدر وتركها وحيدة لا عائل لها..
فهل يكون جزاء الصحابي وابن العم الشهيد أن تترك أرملته وحدها؟! ومن يصل الرحم، ويجازى الشهيد، ويخلفه في أهله بكل البر والخير والرحمة سوى الصادق الأمين خاتم المرسلين - صلى الله عليه وسلم -؟!
وهل مثل هذه الزيجة يكمن خلفها أي مطمع حسي أو غيره؟! أم أنها واجب وعبء إضافي على عاتق المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؟! وقد ماتت - رضي الله عنها - بعد زواجها من الرسول بعدة أشهر.
وكذلك جاء زواجه - صلى الله عليه وسلم - من السيدة أم سلمة - رضي الله عنها - واسمها ((هند بنت سهيل بن المغيرة- ولقبه "أبو أمية" - المخزومى.. وقد أصيب زوجها "أبو سلمة" - رضي الله عنه - يوم أحد، ثم برئ الجرح بعدها بشهر.. وخرج في ((سرية قطن)) ثم رجع منها بعد شهر آخر، وانتقض الجرح عليه فتسبب في استشهاده - رضي الله عنه - وخلف وراءه أرملته أم سلمة وكثرة من الأطفال اليتامى..
فلما انقضت عدتها أرسل إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطبها، فاعتذرت بأنها كبرت في السن، وأنها ذات أطفال، وأنها شديدة الغيرة، فرد عليها البشير النذير: ((أما ما ذكرت من غيرتك فيذهبها الله.. وأما ما ذكرت من سنّك فأنا أكبر منك سنّا... وأما ما ذكرت من أيتامك فعلى الله وعلى رسوله)) (11) أي أن عيالها سوف يرعاهم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من أهم أهداف هذه الزيجة المباركة - كفالة هؤلاء الأيتام - فضلا عن رعاية الصحابية الجليلة السابقة إلى الله ورسوله بعد أن أصبحت أرملة..
وأخيرا جاءت هذه الزيجة تكريما للزوج أبي سلمة نفسه بعه استشهاده، برعاية أرملته وأطفاله، وصلة لرحمه، فهو ابن عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.. فأين إتباع الشهوة في مثل هذا الارتباط بأرملة تجاوزت الخمسين وذات أطفال؟!! ثم شاء الله - تعالى -أن تلعب السيدة أم سلمة دورا عظيما في حفظ السنن وأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعده، فقد عاشت عمرا طويلا مباركا، وروت عن زوجها الحبيب الكثير من الأحاديث، وكانت شديدة الذكاء والحكمة، غزيرة الثقافة، تجيد القراءة والكتابة.
وقد جعل الله - تعالى - حكمتها سببا في إنقاذ الإسلام والمسلمين من موقف عصيب يوم الحديبية، حيث أشارت بالرأي السديد على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصحته بأن يخرج فيحلق رأسه وينحر ذبيحته للتحلل من الإحرام في مكانه بعد أن منعه المشركون من أداء العمرة، ورفض أصحابه الشروط الظالمة التي اشترطها الكفّار.. وأخذ - عليه السلام - بمشورتها الصائبة فحلق شعره ونحر ذبيحته، وما أن رآه الصحابة يفعل ذلك حتى عادوا إلى الرشد وقاموا فحلقوا وذبحوا مثله، ثم عاد الجميع إلى المدينة بدون قتال، وبذلك كان الرأي الرشيد من أم سلمة - رضي الله عنها - سببا في حقن الدماء وإنقاذ الإسلام والمسلمين من فتنة خطيرة الله وحده الذي يعلم عواقبها.
وأما زواجه - صلى الله عليه وسلم - بالسيدة أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان بن حرب - رضي الله عنها - فله قصة توضح الهدف منه، والمقاصد النبيلة الذي تحققت به.. فقد كانت أم حبيبة زوجة لعبيد الله بن جحش، وهاجرت معه إلى أرض الحبشة في الهجرة الثانية.. وهناك فتن عبيد الله وارتد عن الإسلام والعياذ بالله وثبتت السيدة أم حبيبة - رضي الله عنها - على دينها رغم الغربة والوحشة والوحدة، ولم تكن تستطيع الرجوع إلى مكة حيث كان أبوها "أبو سفيان" أحد زعماء قريش يضطهد الرسول وأصحابه أشد الاضطهاد، فلو رجعت أم حبيبة لتعرضت للفتنة في دينها بدورها.. وكان لا بد من رعايتها وتكريمها وتعويضها عن الزوج الذي هلك بالحبشة.
وهكذا أرسل جابر المكسورين، ومؤنس المستوحشين إلى النجاشي ملك الحبشة وكان قد أسلم طالبا منه أن يعقد له على أم حبيبة.. وبالفعل زوّجه النجاشي إياها، ودفع النجاشي مهرها من ماله الخاص تكريما للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم أرسلها إليه بالمدينة بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - معزّزة مكرّمة.. ولما بلغ أبا سفيان خبر زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من ابنته أم حبيبة شعر بالسعادة، وقال عن زوج ابنته مبتهجا رغم أنه كان ما يزال عدوا له ولدينه-: "هو الفحل لا يقرع أنفه"(12).. أي أن مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يرد صهره، فهو كفء كريم تتشرّف كل قبيلة بمصاهرته وتزويجه.
قال أبو سفيان ذلك مع إنه كان ما يزال مشركا عدوا للإسلام، لأنه لم يستطع أن يخفى سروره، ولم يخدع نفسه كأب تزوجت ابنته بأعظم وأشرف الرجال.. ومن المؤكد أن هذه المصاهرة قد أرضت غريزة "حب الفخر" في نفس زعيم المشركين، ولعبت دورا فعّالا في تخفيف عدائه للإسلام والمسلمين تمهيدا لدخوله هو نفسه في الإسلام بعدها بقليل.
وشاء الله جلت قدرته أن تدور الأيام، ويأتي أبو سفيان إلى المدينة محاولا إثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - عن غزو مكة بعد أن نقض المشركون عهودهم، واعتدوا على حلفائه من قبيلة خزاعة، وقتلوهم في الحرم في الشهر الحرام، ولم يجد أبو سفيان ملجأ بعد أن رفض كبار الصحابة التوسط له عند النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بيت ابنته، وفوجئ أبو سفيان بابنته تطوى عنه الفراش في ضيق واشمئزاز.. فسألها: والله يا بنية ما أدرى هل رغبت بالفراش عنى أم رغبت بي عنه؟! فردت عليه بحسم: "بل هو فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت رجل مشرك"..
يا الله.. إنها العقيدة الراسخة كالجبال في قلب زوجة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، تواجه بها أباها الذي خرجت من صلبه.. وذلك هو الإيمان الحق الذي يجعل الله ورسوله أحب إلى المسلم الصادق من أمه وأبيه وابنه وصاحبته وأخيه.
هل كان المطلوب من الرسول أن يترك مثل هذه السيدة العظيمة للضياع بين زوج هالك مرتدّ وأب كافر ألدّ؟!! ومن سواه - صلى الله عليه وسلم - أولى بأن يكرم مثواها، ويجزيها على ثباتها وصبرها وجهادها في سبيل عقيدتها ورسالتها؟! ومن يكون مناسبا لابنة سيد قريش سوى سيد الأولين والآخرين؟!
ونأتي إلى قصة زواجه - صلى الله عليه وسلم - من السيدة زينب بنت جحش الأسدية - رضي الله عنها - وهى ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.. أي أنها من أعرق وأشرف بيوت قريش وأرفعها حسبا و نسبا.. وكانت - فيما يقال - فائقة الجمال..
وعندما أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطبها ظن أهلها أنه يريدها لنفسه، ثم فوجئوا به يطلبها لزيد بن حارثة.. كان زيد - رضي الله عنه - قد تعرّض للخطف ثم الرق في الجاهلية، وانتهي به المطاف عند الصادق الأمين محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أكرم مثواه.
وبلغ من تأثير عطفه وحنانه على زيد أن فضّله زيد على أبيه وعمه (لما خيّره بين البقاء معه أو اللحاق بأبيه وعمه عندما عثرا عليه، وجاءا في طلبه).. وهنا أشهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زيدا ابنه يرث كلاهما الأخر فرضي أبوه وعمه بذلك.
وعلى الرغم من أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعتق زيدا وتبنّاه، ثم أبطل الإسلام التبني فاسترد زيد اسمه الأول (وحريته من قبل)، فإن آل جحش رفضوا أن يزوّجوه ابنتهم وهى من فتيات قريش المعدودات اللاتي يتنافس خيرة شباب العرب للفوز بهن.. ولكن الله - تعالى - شاء أن يمضى هذا الزواج لحكمة كبرى، بل لعدة مقاصد: أولها أن يهدم التفاخر بالأنساب، ويثبّت القاعدة الخالدة الراشدة: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس أغناكم أو أعرقكم نسبا أو أفضلكم حسبا، ونزل قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِينا) (13)..
وفور نزول هذه الآية الكريمة عرف عبد الله بن جحش وأخته زينب - رضي الله عنهما - أنه لا محيد لهما عن طاعة الله ورسوله، فقال عبد الله لابن خاله - عليه السلام -: مرني بما شئت، فتزوّجها - صلى الله عليه وسلم - زيد..
وعلى الرغم من إتمام الزواج ظلت زينب تستعصي على زيد، وتتفاخر عليه بحسبها ونسبها، حتى ضاق - رضي الله عنه - بها ذرعا، وذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في تطليقها، لاستحالة العشرة بينهما، فأمره النبي أن يتق الله ويمسك عليه زوجه فلا يطلقها..
في ذلك الوقت أطلع الله - تعالى -رسوله على ما سوف يحدث، وهو أن (زيد) سيطلّق (زينب)، ثم يزوّجها الله رسوله الأمين، ليهدم بذلك قاعدة التبني التي سادت في الجاهلية، إذ الأعدل والأصوب هو أن ينسب كل ابن لأبيه الحقيقي، وليس لذلك الذي تبنّاه.. وإذا كان الإسلام يحرّم إلى الأبد زواج الأب من امرأة ابنه، فالأمر ليس كذلك في حالة الابن بالتبني، إذ هو ليس ابنا حقيقيا، وما ينبغي أن يكون.
ونزل قول الله - تعالى -: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً) (الآية 37 من سورة الأحزاب.
وأفضل تفسير لهذه الآية الكريمة وأقربه إلى ما يليق بمقام النبوة الشريف النبيل، وما هو مقطوع به من عصمة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ما قاله الإمام على بن الحسين بن على بن أبى طالب الملقب يزين العابدين - رضي الله عنه- الذي روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قد أوحى إليه أن زيدا سوف يطلق زينب، وأن الله سيزوّجها رسوله. فلما شكا زيد للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلقى من أذى زوجته، وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها، قال له الرسول - صلى الله عليه وسلم - على جهة الأدب والوصية: ((اتق الله وأمسك عليك زوجك)).. وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنه سيفارقها، ثم يتزوجها هو من بعده، وهذا (العلم) هو ما أخفاه - صلى الله عليه وسلم - في نفسه، ولم يرد أن يأمره بطلاقها.. فعاتبه الله - تعالى - على هذا القدر من خشية الناس في شيء قد أباحه الله له، وقوله لزيد: ((أمسك عليك زوجك))، مع علمه بأنه سيطلّقها، وأعلمه - سبحانه - أن الله أحق بالخشية في كل حال.
قال علماؤنا - رحمهم الله -: "وهذا القول أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية، وهو الذي عليه أهل التحقيق من المفسّرين والعلماء الراسخين، مثل الزهري وبكر بن علاء القشيرى وأبو بكر بن العربي وغيرهم (14) ويعلق الإمام القرطبى على تلك الرواية الشاذة التي تفسّر قوله - تعالى - للرسول: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) بأنه - صلى الله عليه وسلم - أخفى في نفسه هوى لزينب، قائلا " هذا القول يصدر عن جاهل بعصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مثل هذا "(15).