محبـة النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمـه
بقلم
فهد عبد الله الحبيشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله محمد ابن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم وبعد.
لقد صدق ربي حين قال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}(البقرة120)
ففي حين يحاول بعض المتعلمنين أن يشككوا بمصداقية القرآن والنبوات والغيبيات والأخرة والقدر وكل ما هو إسلامي، حاولوا التشكيك في هذه الآية قصدا منهم لضرب الإسلام في كتابه ثم تثبت الأيام خطأ ما قالوه وما روجوا لها وضاعت تفاهاتهم وذهبت أدراج الرياح حين قام ثلة ممن امتلأت قلوبهم حقدا وحنقا على خير خلق الله محمد بن عبد الله بعملهم الشائن والذي يستنكره كل ذي لب فضلا عمن يكن لهذا النبي الكريم كل تعظيم وتبجيل واحترام، نعم لقد صدق الله وكذب هؤلاء.
وقال رسول الله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن().
وعلى النقيض من أولئك حاول آخرون تزوير حقائق الدين بالدعاوى العريضة الباطلة وجعلوا من المخلوق شريكا للخالق وناقضوا أصل ما جاء به الرسل وأصلت له الكتب السماوية فادعوا في النبي الخالقية سواء صرحوا بهذا أم أتوا بمعناه مما ستراه في هذه الرسالة، وهم بهذا لم يأتوا بجديد إذ قد سبقهم سابقون فهاهم اليهود يدعون في عزير أنه ابن الله ويدعي النصارى أن المسيح ابن الله كذبوا جميعا فما هؤلاء إلا عبيده له سبحانه.
لقد وقف الناس في شأن الأنبياء وعلى رأسهم نبينا محمد على طرفين: الجحود والغلو وكلا القولين منبوذان ذميمان تردهما الحقائق القرآنية والنبوية والتاريخية والواقعية، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، وهذه الوسطية في شأن نبينا محمد هو ما تتحدث عنه هذه الرسالة مبينة ما يتعلق بها من جوانب مهمة ينبغي أن يتنبه لها المسلم وأن يتذكرها دوما، محذرة من الغلو الذي وقع فيه البعض جهلا أو تجاهلا، كما أبغي من كل من طالع هذه الرسالة أن يدعو لي في ظهر الغيب والله المستعان.
تمهيــد
تعريف المحبة لغة واصطلاحا
المحبة لغة:-
ذهب ابن القيم إلى أن مادة كلمة حب تدور في اللغة على خمسة أشياء هي:-
الصفاء والبياض ومنه قولهم لصفاء بياض الأسنان ونضارتها: حبب الأسنان .
العلو و الظهور ومنه "حبب الماء وحبابه" وهو ما يعلوه عند المطر الشديد .
اللزوم و الثبات و منه حب البعير وأحب إذا برك و لم يقم .
اللب ومنه حبه القلب للبه وداخله .
الحفظ والإمساك و منه حب الماء للوعاء الذي يحفظ فيه ويمسكه وفيه معنى الثبوت أيضا .
ثم قال: ولاريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة فإنها صفاء المودة وهيجان إرادة القلب للمحبوب وعلوها وظهورها منه لتعلقها بالمحبوب المراد، وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوما لا تفارقه ولإعطاء المحب محبوبه لبه واشرف ما عنده وهو قلبه ولاجتماع عزماته وإرداته وهمومه على محبوبه()
المحبة اصطلاحا:
قال ابن حجر :وحقيقة المحبة عند أهل المعرفه من المعلومات التي لا تحد وإنما يعرفها من قامت به وجدانا ولا يمكن التعبير عنها() ونحو هذا قال ابن القيم: لاتحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف اظهر من المحبة() .
المبحث الأول :وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم
إن محبة النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الواجبات في الدين ومن أعظم الحقوق الواجبة علينا تجاهه صلى الله عليه وسلم على هذا دل القران والسنة من هذه الأدلة:
قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }(التوبة24)دلت هذه الآية على وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم وليس كذلك فقط بل يجب أن تكن هذه المحبة مقدمه على كل محبوب() كا لأب والابن والأخ ...الخ
قال القاضي عياض: "كفى بهذه الآية حظا وتنبيها ودلالة وحجة على لزوم محبته ووجوب فرضها واستحقاقه لها صلى الله عليه وسلم؛ إذ قرع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله وأوعدهم بقوله تعالى (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ثم فسقهم بتمام الآية و أعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله"()
ثبت في البخاري من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شي إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له: عمر فإنه الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الآن يا عمر()
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم قال: فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده().
عن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين().
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار()
عن أنس بن مالك قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله متى الساعة ؟ قال: وما أعددت للساعة ؟ قال: حب الله ورسوله قال فإنك مع من أحببت.
قال أنس فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: فإنك مع من أحببت، قال أنس: فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم()
هذه الأحاديث وغيرها تدل على وجوب محبة النبي وعظمها في الدين و لهذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حبا له صلى الله عليه وسلم فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما كان احد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه وما كنت أطيق أن املأ عيني منه إجلالا له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن املأ عيني منه()
وسئل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه كيف كان حبكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الضمأ().
والمطالع في كتب السير يجد صورا كثيرة رائعة تدل على مدى حب الصحابة له صلى الله عليه وسلم وإيثارهم له وتقديم أرواحهم رخيصة فداء له .
أما الناس بعد صحابة رسول الله فقد انقسموا في محبته إلى ثلاثة أقسام:
أهل إفراط
أهل تفريط .
الذين توسطوا بين الافرا ط والتفريط
فأهل الإفراط منهم الذين بالغوا في محبته بابتداعهم أمورا لم يشرعها الله ورسوله ظنا منهم أن فعل هذه الأمور علامة المحبة وبرهانها كالاحتفال بمولده و المبالغة في مدحه لدرجة إشراكه في صفات خاصة لله عز و جل كما سأذكر نماذج منه لاحقا، وهؤلاء ينبغي أن يعلموا أن محبة رسول الله لا تكون بالغلو فيه بل بتصديقه فيما اخبر به عن الله، وطاعته فيما أمر به ومتابعته ومحبته وموالاته .
أما أهل التفريط وهم المقصرون في حق النبي فلم يقدموا حبه على حب النفس والأهل و المال والولد ولم يعزروه ويوقروه ويتبعوا سنته والسبب في ذلك يعود إلى:
جهل الكثير منهم بأمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له والتي من ضمنها محبته فهؤلاء يجب عليهم أن يتعلموا أمور دينهم بما فيها الحقوق الواجبة له.
إعراض هؤلاء عن سنة نبيهم وعن اتباع شرعه بسبب ما هم عليه من المعاصي وإسرافهم على أنفسهم وتقديمهم شهوات أنفسهم وأهوائهم على ما جاء في الشرع من الأوامر والنواهي .
فالواجب على هؤلاء الإقلاع عن الذنوب والمعاصي التي هي سبب نقصان إيمانهم وضعف محبتهم وبعدهم عما يقربهم إلى الله تعالى .
وأما الذين توسطوا بين الإفراط والتفريط فهؤلاء هم السلف الصالحين من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم من الذين آمنوا بوجوب هذه المحبة حكماً وقاموا بمقتضاها اعتقادا وقولا وعملا فأحبوا النبي فوق محبة النفس والولد والأهل وجميع الخلق امتثالا لأمر الله وأمر رسوله فجعلوه أولى بهم تصديقا لقوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وقاموا بمقتضى هذه المحبة فآمنوا وصدقوا بنبوته ورسالته وما جاء به عن ربه عز وجل، واعتقدوا أنه ليس من المحبة فيء شيء الغلو في حقه وقدره ووصفه بأمور اختص الله بها وحده بل علموا أن في هذا مخالفة ومضادة لتلك المحبة ومناقضة لما أخبر به سبحانه وتعالى().
أقسام محبته:-
وهنا يذكر ابن رجب أن محبة النبي على درجتين:
أحداهما: فرض، وهي المحبة التي تقتضي قبول ما جاء به الرسول من عند الله وتلقيه بالمحبة والرضا والتعظيم والتسليم، وعدم طلب الهدى من غير طريقه بالكلية ثم حسن الاتباع له فيما بلغه عن ربه من تصديق في كل ما أخبر به وطاعته فيما أمر به من الواجبات والانتهاء عما نهى عنه من المحرمات ونصرة دينه والجهاد لمن خالفه بحسب القدرة فهذا القدر لابد منه ولا يتم الإيمان يدونه 0
والدرجة الثانية :فضل، وهي المحبة التي تقتضي حسن التأسي به، وتحقيق الإقتداء بسنته وأخلاقه وآدابه ونوافله وتطوعاته، وأكله وشربه ولباسه وحسن معاشرته لأزواجه وغير ذلك من آدابه الكاملة وأخلاقه الطاهرة() .
وفي فتح الباري عن بعض العلماء أنه قال : محبة الله على قسمين فرض وندب ، فالفرض : المحبة التي تبعث على امتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه والرضا بما يقدره فمن وقع في معصية من فعل محرم أو ترك واجب فلتقصيره في محبة الله حيث قدم هوى نفسه، والتقصير تارة يكون مع الاسترسال في المباحات والاستكثار منها فيورث الغفلة المقتضية للتوسع في الرجاء فيقدم على المعصية أو تستمر الغفلة فيقع ، كذلك محبة الرسول على قسمين كما تقدم ، ويزداد : ألا يتلقى شيئا من المأمورات والمنهيات إلا من مشكاته ، ولا يسلك إلا طريقته ويرضى بما شرعه حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضاه ويتخلق بأخلاقه في الجود والإيثار والحلم والتواضع وغيرها() 0
بواعث محبة النبي :-
يدعو المسلم إلى محبة النبي أمور عدة منها:-
1- موافقة مراد الله عز و جل في محبته لنبيه وتعظيمه له فقد أقسم بحياته تعظيما له في قوله (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) كما أثنى عليه فقال
وانك لعلى خلق عظيم)(القلم4) وقال : (ورفعنا لك ذكرك) 0
قال ابن القيم: وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعا لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رسول الله وتعظيمه فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه ، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له فهي محبه لله من موجبات محبة الله ، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة رضي الله عنهم – وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله ()
2- أن محبته وتعظيمه من شرط إيمان العبد بل الأمر كما قال ابن تيمية : "إن قيام المدحة والثناء عليه والتعظيم والتوقير له قيام الدين كله وسقوط ذلك سقوط الدين كله"().
3- ما ميزه الله تعالى به من شرف النسب وكرم الحسب وصفاء النشأة وكمال الصفات والأخلاق والأفعال
4- شدة محبته لأمته وشفقته عليها ورحمته بها قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)(التوبة125) وكم كان يسأل الله تعالى الخير لأمته ويفرح بفضل الله عليها وكم تحمل من مشاق نشر الدعوة وأذى المشركين بالقول والفعل حتى أتم الله به الدين وأكمل به النعمة() .
علامات محبة النبي:-
اعلم أن من أحب شيئا آثره وآثر موافقته وإلا لم يكن صادقا في حبه وكان مدعياً() ولا يوافق قوله فعله، ومحبة النبي لا تخرج عن هذا الإطار، ولا شك أن لمحبة النبي علامات ودلائل تدل على حقيقة صدق هذه المحبة، ولهذا كان لزاماً على المسلم أن يعرفها ليحققها ويعمل بها وأهم هذه العلامات ما يلي:-
الإقتداء به واستعمال سنته وسلوك طريقته والاهتداء بهديه وسيرته والوقوف عندما حد لنا من أحكام شريعته ومحبته من مهماتها وهذه أعظمها() فعن أنس بن مالك قال: قال لي رسول الله : يا بني إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل ثم قال لي يا بني وذلك من سنتي ومن أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة().
وتأمل قوله تعالى
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) أي الشأن في أن الله يحبكم، لا في أنكم تحبونه وهذا لا ينالونه إلا بإتباع الحبيب () قال المحاسبي : و علامة محبة العبد لله عز و جل اتباع مرضاة الله ، و التمسك بسنة رسول الله فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان ، ووجد طعمه ظهرت ثمرة ذلك على جوارحه ولسانه()
وقال غيره : من الزم نفسه آداب السنة نور الله قلبه بنور المعرفة ، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب في أوامره ونواهيه وأفعاله وأخلاقه و قال أبو إسحاق الرقي: علامة محبة الله إيثار طاعته ومتابعة نبيه .
وقال غيره: لا يظهر على أحد شئ من نور الإيمان إلا بإتباع السنة ومجانبة البدعة()
أن يرضى مدعيها بما شرعه الله حتى لا يجد في نفسه حرجا مما قضى() قال تعالى : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }(النساء65) فسلب الإيمان عمن وجد في صدره حرجا من قضائه و لم يسلم له
وهي داخله فيما قبلها :إيثار ما شرعه وحض عليه على هدى نفسه وموافقة شهوته قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(الحشر9) و اسخاط العبد في رضا الله تعالى()
كثرة ذكره له فمن أحب شيئا أكثر ذكره() و لبعضهم : المحبة دوام ذكر المحبوب() قال ابن القيم في الصلاة على النبي : إنها سبب لدوام محبته للرسول و زيادتها و تضاعفها ، و ذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به ، لان العبد كلما أكثر من ذكر المحبوب و استحضار محاسنه و معانيه الجالبة لحبه تضاعف حبه له و تزايد شوقه إليه و استولى على جميع قلبه ، وإذا أعرض عن ذكره و إحضاره ، و إحضار محاسنه بقلبه نقص حبه من قلبه، ولا شئ أقر لعين العبد المحب من رؤية محبوبه ، ولا أقر لقلبه من ذكره و إحضار محاسنه، فإذا قوى هذا في قلبه جرى لسانه بمدحه و الثناء عليه و ذكر محاسنه، و تكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه() .
و ذكره يكون بالصلاة عليه وبهذا يعلم فضيلة الحديث و أهله لذكرهم له كثيرا ()و صح في السنة قوله :البخيل من ذكرت عنده فلم يصلي على() .
وقد شرع ذكر النبي لإظهار محبته واحترامه وتوقيره وتعظيمه و هذا من علامات محبته، ولقد ورد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا بعد وفاته لا يذكرونه إلا خشعوا و اقشعرت جلودهم وبكوا ، وكذلك كان كثير من التابعين من يفعل ذلك محبة له و شوقا إليه() .
و يدخل ضمن الذكر المشروع تعداد فضائله و خصائصه وما وهبه الله من الصفات و الأخلاق و الخلال الفاضلة، وما أكرمه به من المعجزات و الدلائل و ذلك من أجل التعرف على مكانته ومنزلته والتأسي بصفاته وأخلاقه و تعريف الناس و تذكيرهم بذلك ليزدادوا إيمانا و محبه له و لكي يتأسوا به ، ولا محظور في التمدح بذلك نثرا و شعرا مادام ذلك في حدود المشروع الذي أمر به الشارع الكريم() 0
نصر دينه بالقول والفعل والذب عن شريعته و التخلق بأخلاقه في الجود و الإيثار والحلم و الصبر و التواضع وغيرها، فمن جاهد نفسه على ذلك وجد حلاوة الإيمان، ومن وجدها استلذ الطاعات و تحمل المشاق في الدين ، واثر ذلك على أغراض الدنيا الفانية() 0
كثرة الشوق إلى لقائه فكل حبيب يحب لقاء حبيبه() ، أما في حياته فمعروف وأما بعد موته فبأن يشتاق إلى لقائه في الآخره و يشاهد ذاته الكريم () .
و قد نص النبي على هذه العلامه فقال : من أشد أمتي لي حبا ناس يكونون بعدي يود احدهم لو راني بأهله و ماله() .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : و الذي نفسي محمد في يده ليأتيني على أحدكم يوم لا يراني ثم لإن يراني معهم أحب إليه من أهله و ماله() .
ومن الامثله التطبيقية لهذه العلامه أن الأشعريين عند قدومهم المدينة كانوا يرتجزون : غدا نلقى الأحبه ... محمدا و حزبه()
و روي إن بلالا و حذيفه بن اليمان و عمار بن ياسر كانوا يقولون لما حضرتهم الوفاة :غدا ألقى الاحبه محمدا و حزبه()
حب القرآن الذي أتى به ، وهدى به واهتدى و تخلق به حتى قالت عائشة: رضي الله عنها: إن خلق نبي الله كان القرآن() أي كان دأبه التمسك به والتأدب بآدابه والعمل بما فيه من مكارم الأخلاق فجعلت عائشة رضي الله عنها القرآن نفس خلقه مبالغة في شدة تمسكه به، وأنه صار سجية له وطبيعة كأنه طبع عليها() .
وتمثيل حب القران بكثرة تلاوته له على الوجه المرضي فيها عند أهل الأداء، و ليس المراد مطلق القراءة كذا قال الخفاجي() و الصواب أن كثرة تلاوته تدل على حب القرآن و الشغف به، و قد صح أن من يتعتع في قراءته له أجران فلاوجه لقصر محب القرآن على المقرئين فقط ، وإضافة إلى كثرة تلاوته ودوام قرأته ، العمل بما فيه من أحكام و مواعظ ، و تفهمه أي طلب فهمه في مواعظه و قصصه ووعده ووعيده و بيان أحوال أنبيائه وأوليائه و عاقبة أعدائه() وكذا التقيد بفهم معانيه() .
هذا و السنة مليئة بالحث على تعلم القران و إتباعه، فصح عن عثمان رضي الله عنه عن النبي قال : خيركم من تعلم القران و علمه() .
و صح عنه انه قال : كتاب الله عز وجل هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى و من تركه كان على ضلاله() .
و لهذا إذا أردت إن تعرف ما عندك و عند غيرك من محبة الله و رسوله فانظر محبة القرآن من قلبك، و التذاذك بسماعه أعظم من التذاذ أصحاب الملاهي و الغناء المطرب بسماعهم ، فإنه من المعلوم أن من أحب محبوبا كان كلامه وحديثه أحب شئ إليه كما قيل :
إن كنت تزعم حبي ... فلم هجرت كتابي
أما تأملت ما فيـ ... ـه من لذيد خطابي
و يروى أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال : لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله() 0
محبة سنته ، و الذي يشمل: طريقه وهديه بالإقتداء به قولا وفعلا، وأحاديثه فيقف عند حدودها، و هي أوامرها و نواهيها() و أن يكثر من قراءتها فإن من دخلت حلاوة الإيمان في قلبه إذا سمع كلمه من كلام الله تعالى أو من حديث رسوله تشربتها روحه وقلبه ونفسه() قال سهل بن عبدالله : علامة حب الله حب القران وعلامة حب القران حب النبي وعلامة حب النبي حب السنة و علامة حب السنة حب الآخره()
محبته لمن أحب النبي ومن هو بسببه من آل بيتة وحمايته من المهاجرين والأنصار ، وعداوة من عاداهم ، وبغض من يبغضهم وسبهم ، فمن أحب سيئاً أحب من يحب() فعن زيد بن رقمه رضي الله عنة قال : قام رسول الله فينا خطيباً بما يدعي ((ضما)) بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى علية ، ووعظ وذكر ثم قال : أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ،فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال : وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ،أذكركم الله في أهل بيتي() .
ومن آل بيته أزواجه قال البهيقي: ويدخل في جمله حب النبي حب أصحابة لأن الله عز وجل أثنى عليهم ومدحهم فقال : {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ... }(الفتح29) وغيرها من الآيات() وصح في السنة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنة قال :قال رسول الله :آية الإيمان حب الأنصار ، وآية النفاق بغضهم()
بغض من أبغض الله ورسوله ، ومعاداة من عاداه ، ومجانبة من خالف سنته وابتدع في دينة واستثقاله كل أمر يخالف شريعته() قال تعالى : {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }المجادلة22
وهؤلاء أصحابه قد قتلوا أحباءهم وقاتلوا آباءهم وأبناءهم في مرضاته، وقال له عبدالله بن عبد الله بن أبي: لو شئت لأتيتك برأسه –يعني أباه-"().
11- شفقته على الأمة بأن يحبهم ويتلطف بهم ويرقق قلبه عليهم ونصحه لهم في أمرهم ونهيهم وموعظتهم وبيان ما يصلحهم من أمورهم وسعيه في مصالحهم الدينية والدنيوية بشفاعته ومعاونته وقضاء حوائجهم ورفع المضار عنهم بدفع المظالم وإزالة مضايقتهم كما كان رسول الله بالمؤمنين رؤوفا رحيما"().
ثواب محبته:
لقد صحت أحاديث تبين عظم ثواب محبة النبي منها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة ؟ قال: وما أعددت للساعة ؟ قال: حب الله ورسوله، قال: فإنك مع من أحببت.
قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنك مع من أحببت
قال أنس فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم()
ففي هذا الحديث بشارة عظيمة للسائل ولكل من أحب الله تعالى ورسوله .
وليس المراد بالمعية هنا المساواة في المنزلة وعلو الرتبة وإنما المراد أنه يدخل الجنة في زمرة المؤمنين وإن كانت مراتبهم متفاوته().
ونحو الحديث السابق جاء عن عبد الله بن مسعود : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف تقول في رجل أحب قوما ولم يلحق بهم ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء مع من أحب"().
ومعلوم أن المحبة القلبية لابد أن تنعكس على الجوارح ويكون لها الأثر الواقعي الذي يدل على تلك الصفة الإيمانية، فدعوى المحبة القلبية دون برهان واقعي يجسد معانيها ويدل عليها تبقى دعوى، إذ إن المحبة تعني الاتباع والمتابعة له والاجتهاد في الطاعة لكي يصل إلى مرتبة عالية في الجنة والتي يتيسر لها من خلالها معيته ومما يدل على هذا حديث ربيعة بن كعب الأسلمي قال:كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل فقلت أسألك مرافقتك في الجنة قال أو غير ذلك ؟ قلت هو ذاك قال فأعني على نفسك بكثرة السجود()
ومما يدل على هذا المعنى قوله تعالى: " {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً }(النساء69).