الوسائل العملية للصراع مع الشيطان

الوسائل العملية للصراع مع الشيطان
صلاح الدين سلطان



- العلم: لقد ورد الحديث عن الشيطان وإبليس في القرآن الكريم (96 مرة)، وفي الأحاديث النبوية مئات المرات مما يكوِّن صورة واضحة جلية لمن تدبر القرآن وفهم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- في الحديث عن الشيطان، نخرج بصورة كلية جامعة عن عدوه اللدود الشيطان الرجيم، سواء في رسالته في جر الإنسان إلى قعر جهنم، وأهدافه، وخصائصه، ووسائله، وأوقات عمله، وطرق التغلب عليه، مما يحتاج إلى دقة في العلم والمعرفة عن هذا العدو، ولعل الإطار العام في الإسلام الذي يوجب طلب العلم من الكلمة الأولى في القرآن "اقرأ" وتتابع الحث على طلب العلم، حيث وردت مادة "علِم" (865 مرة)، يضاف إليها مادة "التذكر" (248 مرة)، ومادة "السؤال" (129 مرة)، ومادة "العقل" (49 مرة)، ومادة "التدبر" (44 مرة). هذا الكم الهائل من النصوص الشرعية في الحث على طلب العلم عامة وعن الشيطان خاصة كي يبقى المسلم مشغولا طوال حياته بطلب العلم من المهد إلى اللحد، ويحوِّل هذه الاعتقادات القلبية والأفكار العقلية إلى برامج عملية في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والمالية والسياسية ليطوِّعها كلَّها للنصوص الشرعية، ويتجنب بقوة الوساوس الشيطانية والأهواء الذاتية، فلا يجد الشيطان فراغا فكريا ليملأه بالوساوس، أو فراغا عمليا فيملأه باللغو والعبث والتسلية والمجون.
فاشغل نفسك بالقراءة والدراسة، والدورات، واللقاءات العلمية بشكل دائم يبعد عنك الشيطان، أما ما يجب تعلمه، وفق منهج متدرج؛ ليحفظ المسلم أو المسلمة عقله وقلبه من أن يسيطر عليه إبليس اللعين وجنوده فيمكن أن يراجع في الفصل الأخير من كتابي "ثوابت الإيمان بعد رمضان" (من مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، مملكة البحرين، "سلسلة قضايا اجتماعية وإسلامية").
2- الذكْر: في قوله - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ)[الأعراف: 201].
ولابد أن يكون الذكْر كثيراً مستمرا، متوافقاً مع يوم الإنسان وليله، يقظته ومنامه، مطعمه وشرابه، حتى ييأس الشيطان منه، أو يبتعد عنه. ومن القصص التي لا أنساها في إطار الصراع مع الشيطان الذي ينتهز الفرصة ليجتث الإخلاص حتى عندما دعيت كي ألقي درسا عن الإخلاص في أحد المساجد فأعددت النصوص والأفكار الرئيسة للموضوع، وعندما هممتُ بالخروج إلى المسجد طلبت مني زوجتي أن أشتري بعض اللحم عند عودتي، فخرجت أفكر في عناصر الموضوع وعندما وصلت إلى المسجد، وخلعت حذائي للدخول إليه وإذا بالجزَّار يدخل معي! فيقفز الشيطان بسرعة رهيبة فيوسوس لي بأن هذا الجزَّار سيسمع كلاما حسنا فيعطيك لحما طيبا، لكن الله - تعالى - ذكَّرني سريعا به فاستعذت بالله من الشيطان الذي يريد أن يصيب إخلاصي في مقتل، في نفس الوقت الذي أُعلّم فيه الناس الإخلاص، وقد قررَّتُ - حتى أقطع دابر الوسواس - ألا آخذ لحماً منه أبدا، وألقيت درسي ثم عدت إلى أهلي فسألوا عن اللحم فقلت لهم: اللحم أو الإخلاص؟ فسألوا ما العلاقة؟
فقصصت عليهم القصة، ومازلت أتعجب إلى اليوم لهذا اللعين الذي يسترق الإخلاص، وينتهز الفرصة، ليفسد على الإنسان دينه حتى ولو كان في مقام من يُعلّم الناس الإخلاص.
وهو درس يُلزم الإنسان أن يظل يقظاً مستصحبا دائما ذكر الله كأقوى سلاح للصراع مع الشيطان.
3- الصوم: روى البخاري بسنده في حقيقة الصيام عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ)).
وقد ذكر الشيخ الألباني في كتابه "حقيقة الصيام" أن عبارة: ((فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم)) لا أعلم لها أصلا في كتب السنة.
وإن كان ذلك لا يمنع من صحة المعنى أن الصوم - سواء كان صوم فرض أو تطوع- يُجهد الشيطان ويقلل وساوسه للإنسان، لأنه عنصر تربوي فاعل ومؤثر في شفافية القلب، وصفاء الروح، وضعف الهوى، وإنهاك الشيطان. ولعل في دراستي عن "الصيام لجام الشهوات الأربع" ما يعين السالكين إلى الله رب العالمين لمواجهة الشيطان بهذا اللجام الرباني لنفسٍ يأسرها الهوى ويستبد بها الشيطان، فيأتي الصيام محررا الإنسان من هذا الأسر والاستبداد، ويحوله إلى إنهاك للشيطان وتحكم في الهوى.
4- صحبة الصالحين: روى التبريزي بسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((يد الله مع الجماعة ومن شذ، شذ في النار))، وما أورده المنذري بسنده عن الرسول – صلى الله عليه وسلم-: ((الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب))، والحق أن من يريد السير إلى الله فلابد من صحبة صالحة يفر منها الشيطان، ويكون التواصي بالحق والتواصي بالصبر طريقاً إلى رضا الله ونيل الجنان.
ومن القصص التي أحب أن أُذَّكر بها نفسي وإخواني وأخواتي قصة الزوج الذي ترك المسجد إلى صحبة الفساق والفاسقات وشرب المسكرات والمخدرات ومحاولة قتل زوجته ثم الانتحار حيث كان الزوج معتادا على الصلاة في المسجد محافظا على أسرته وأولاده، فأحدث الشيطان شقاقاً بينه وبين إخوانه في المسجد فتركه، ولأن الإنسان مدني بطبعه يحب الصحبة فقد ساق الشيطان له أصدقاء غير متدينين وهؤلاء استدرجوه إلى المخدرات والسُكر والنساء، وعلمت زوجته وتوسلت إليه، ونزلت العمل لتساعده في سداد فواتير السُكر والمخدرات كي يعود إليها كما كان، فدفعه شيطانه إلى سرقة سيارة أبيها ثم سيارتها ولم يُبلغا الشرطة، بل سحبت من تأمين الضمان الاجتماعي لتساعده وتربي الأولاد دون جدوى، ثم ذهب ليسرق سيارة والده، فخرج يريد أن يُدركه ويمنعه لكنه ضرب أباه بجانب السيارة وتركه مغشيا عليه، فلما أفاق أبلغ الشرطة التي بحثت عنه فوجدته مع صحبة من الفساق والفاسقات في أحد الفنادق، وسُجن أياما ثم خرج وقد عقد العزم على قتل زوجته ظناً منه أنها هي التي أبلغت عنه، وجاء بالمسدس والسكين ليقتلها فلما خرج والدها لفتح الباب ضربه في رأسه، فأغمي عليه وأصابه إصابة خطيرة، وجاءت الشرطة بعد إبلاغ الجيران، وطلبت منه وضع السلاح والسكين فأبى، فأطلقت عليه الرصاص، في الوقت الذي قام فيه بوضع السكين في قلبه بيده، وثبت أنه قُتل بالسكين قبل إصابته بالرصاص، والعجيب أن الزوجة التي كنا نصبّرها اتصلت تسأل عن حكم الصلاة عليه وهل يمكن أن تراه عند الغسل أم لا؟!
5- كن مستعداً للمواجهة حتى النزع الأخير: يرى ابن القيم أن: "أول نزغات الشيطان خَطْرة، فادفعها فهي أهون مما بعدها، وإلا صارت فكرة، فادفعها فهي أهون مما بعدها، وإلا صارت عزما، فادفعه فهو أهون مما بعده، وإلا صار هَمّاً، فادفعه فهو أهون مما بعده، وإلا صار فعلا، فادفعه فهو أهون مما بعده، وإلا صار عادة".
وأزيد على ذلك أن الإنسان قد يمارس عادات السوء سرا، فإن لم يدفع وساوس الشيطان فإن العادة تصير فسوقاً، أي إعلاناً ومجاهرة بالمعصية، فإن لم يدفعها الإنسان فقد يجرفه الشيطان أكثر وأكثر لمواجهة أصحاب الحق والمكارم الأخلاقية، ليكون من الآمرين بالمنكر والناهين عن المعروف، والمحاربين للدعاة والمصلحين.
أما الاستعداد للمواجهة حتى سكرات الموت فيمكن إيضاحها من قصة الإمام ابن حنبل حيث جاءه الشيطان في لحظات احتضاره ليبذل آخر محاولاته في إحباط عمله، ودخل إليه بمدخل لا يصلح إلا لهذا المستوى من كبار العلماء المجاهدين، فقال له: لقد أفلتَّ مني يا ابن حنبل، لكن يقظة قلبه وصفاء نفسه، وصلته بربه جعلته يتذكر سريعا حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "تبَّاً لك، ما أفلتُ منك بعد! روينا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((إنَّ الشيطانَ يَجري من ابن آدَمَ مَجرى الدم))، فهذا العلم نفع الإمام أحمد في أن يعصم نفسه من نزغة شيطانية في لحظة ربانية قبل أن يلقى ربه، حيث أراد أن يصيبه بالغرور والكبر بأنه إمام عظيم استطاع أن يفلت من حبائل الشيطان، وقد روى مسلم بسنده عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبِيِّ –صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ))، وإذا كان الشيطان لم ييأس حتى اللحظة الأخيرة من حياة الإمام أحمد فكيف بنا نحن؟! إننا يجب أن نظل في يقظة كاملة من نزغات الشيطان خاصة في اللحظات الأخيرة من حياتنا.
هذه المنهجية في فهم فسوق الشيطان عن أمر الله وعداوته لنا، ورسالته في جرّ عباد الله إلى عذاب الله، وأهدافه من الإنسان في نسيان أمر الله وذكره وإلقاء العداوة بينه وبين من حوله والحض على العُري والفسوق وإلقاء الحزن والكآبة واليأس والإحباط في النفوس، وأنه يعمل بالليل والنهار، في الصباح والمساء، قبل العمل وأثناءه وبعده، لصد الإنسان عن الخير والإقبال على ربه والاستعداد لآخرته.
ولكن هذه كلها لا توهن عقيدة المسلم الراسخة في ضعف كيد الشيطان أمام ذكر الرحمن، ومخالفة الهوى باستذكار العلم واستصحاب الذكر ومصاحبة الصالحين وعمارة المساجد واليقظة الدائمة في مواجهة هذا العدو اللعين، ثم التوبة الصادقة ولو قبل الغرغرة التي تحيل كل جهوده من الدفع إلى السيئات إلى جبال من الحسنات؛ لقوله - تعالى -: (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [الفرقان: 70].
ولم يبق إلا أن يفر الإنسان من الشيطان إلى ربه - تعالى - ذي الجلال والإكرام، لقوله - تعالى -: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 268