ضوابط فهم السنة النبوية
د.محمد بن عبدالرحمن العمير
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله و أصحابه والتابعين لهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أقول مستعينا بالله:
قد اتفق المسلمون على أن السنة النبوية حجة ودليل من أدلة الشريعة، وأنه لا تتم طاعة الله إلا بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا توجهت همم الصحابة رضي الله عنهم إلى الأخذ عنه، وتتبع أقواله وأفعاله، وتقريراته، وكانوا عربا أقحاحا يفهمون معاني خطابه على مقتضى لغتهم، وإذا خفي عليهم معنى، أو اختلفوا في فهم واستنباط رجعوا إليه، وبعدما مات النبي صلى الله عليه وسلم توجهت الهمم إلى هذا الميراث، وعنوا به من جانبين:
أولهما: جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يضيع منه شيء، والتحقق من صحة النسبة إليه حتى لا يدخل فيه ما ليس منه، وتمخضت العناية بهذا الجانب عن حركة حديثية امتدت في العالم الإسلامي، نتج عنها الاصطلاح على ضوابط وآداب لرواية الحديث، وعلى صياغة قواعد يميز بها بين ما تقوم به الحجة من النقول وما لا يحتج به، وصنف في هذا الجانب مصنفات كثيرة متنوعة في الحديث النبوي رواية ودراية .
أما الجانب الثاني من جوانب اهتمام الصحابة ومن بعدهم من علماء الإسلام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو الفهم الصحيح لما نقل عنه، والتعرف على مراده صلى الله عليه وسلم، وهذا الجانب هو الغاية من نقل السنة ودراستها، إذ به يتمكن المكلف من العمل وفق مقصد الشارع .
لقد بدت العناية بهذا الجانب في زمن مبكرا جدا، منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم، وربما وقع خلاف بينهم في فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن كانت مسائل الخلاف محدودة لقرب العهد بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولتمكنهم من اللغة العربية، وفهمهم مقاصد الخطاب العربي على اختلاف وجوه بيانه، لكن مع تباعد العهد، وكثرة وقائع الحياة، وتنوعها ظهرت الحاجة إلى قواعد ضابطة للاستنباط، وفهم النصوص، وما زالت القواعد تتأصل، وتزداد قوة ورسوخا، ونتج عن ذلك تراث كبير من المصنفات في الفقه وأصوله، وفي القواعد الفقهية ومقاصد الشريعة .
ولقد وظفت علوم الحديث، وعلوم الاستنباط في فهم الحديث النبوي، واستفاد منها العلماء في مصنفاتهم التي شرحوا فيها الحديث النبوي، مرة ببيان مشكله، ومرة بيان ناسخه ومنسوخه، ومرة ببيان مختلفه، ومرة ببيان معانيه، والأحكام المستنبطة منه، إلى غير ذلك من وجوه التأليف التي لا تكاد تحصر. ثم إن هذه المصنفات قد تمايزت قوة وضعفا بحسب الالتزام بالقواعد التي يتحقق بها من صحة نسبة الأحاديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبحسب سلامة المنهج في الاستنباط، وبحسب القدرة على فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم، ودفع ما قد يعرض من إشكال وتعارض بين الأحاديث النبوية، أو بين الحديث وبين القرآن الكريم .
ونحاول في هذه الورقة أن نستعرض بما يناسب الوقت والمقام ضوابط فهم السنة النبوية في المحورين المشار إليهما آنفا، وهما:
الأول: التحقق من ثبوت النص .
الثاني: فهم النص النبوي في ضوء النصوص الأخرى .
المحور الأول:التحقق من ثبوت النص .
لقد تكفل الله بحفظ كتابه، فقال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر9)، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم محفوظة بالتبعية للكتاب؛ لأنها مبينة له، وشارحة له؛ لقوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ( النحل 44 )، لذا لا يمكن تمام فهم القرآن إلا بالسنة، ولا تتحقق طاعة الله إلا باتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولتحقيق ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه فقال" بلغوا عني، ولو آية "[1]، وحث على الضبط عنه فقال: " نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ "[2] .وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من القول عليه بغير علم أو تثبت فقال: "مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ"[3]، وقال: " من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين"[4]، لذا حظيت أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بكل عناية، لكن لما كان الأعم الأغلب من حديث النبي صلى الله عليه وسلم منقولا عن طريق الآحاد فإنه يعتري النقل عنه ما يعتري الآحاد من الناس من آفات الخطأ والنسيان، بل يعتريه أيضا التعدي بالكذب والوضع، لذا وقع في الروايات الصواب والخطأ، ونسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يثبت عنه. وقد بذل سلفنا من لدن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جهودا مضنية في تحقيق صحة النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسسوا منهجا علميا في التحقق من صحة المرويات .
ولما كانت الحجة خاصة بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، كان من اللازم عقلا، والواجب شرعا على الراغب في معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمتوجه للعمل بسنته أن يتحقق من ثبوت صحة النقل عنه صلى الله عليه وسلم، وأن يتوجه بالدراسة إلى متن الحديث وإلى طريق وصوله إلينا، ذلك أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نقله عنه الصحابي، ثم حدث به الصحابي غيره، ثم تسلسل النقل من راو إلى آخر، فأصبح الحديث مكونا من جزأين: الطريق الموصلة إلى المتن: وهي سلسلة الرواة، التي اصطلح على تسميتها بسند الحديث .
والجزء الآخر: ما ينتهي إليه السند من الكلام، وهو ما يسمى بالمتن . وقد حظي كل من المتن والسند بالاهتمام، ورسمت قواعد للتثبت خاصة بكل منهما، نوضحها فيما يلي:
- التحقق من ثبوت الحديث بالنظر في المتن:
أخذ البحث في أسانيد الأحاديث شهرة أكثر من البحث في المتن، واستحوذ على مساحات أكبر في الدراسات الحديثية حتى ظن البعض أن العلماء لم يعنوا بدراسة المتن، واتهمهم البعض أنهم اجتهدوا في العناية بالسند، وأهملوا البحث عن حقيقة النص الصحيح[5]، لكن الحقيقة غير ذلك، فإن جهودهم قد انصبت على المتن والسند معا، بل إن التحقق من صحة المتن كان سابقا من حيث الزمن، فقد بدأ في وقت مبكر جدا، في حياة النبي صلى عليه وسلم، حين كان الصحابة يحدث بعضهم بعضا بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما رغب أحدهم في مزيد من الاستيثاق وطمأنينة القلب فيتوجه بعرض مسموعاته على النبي صلى الله عليه وسلم كما في قصة عمر رضي الله عنه حيث كان يتناوب مع جار له في عوالي المدينة النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل هذا يوما وينزل عمر يوما، ويأتي كل واحد منهما صاحبه بما سمع من رسول الله صلى عليه وسلم، فجاء الجار يوما فأخبر عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق أزواجه، فذهب عمر رضي الله عنه ليستوثق، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله: أطلقت أزواجك؟ فقال:"لا"[6]. هذا الحديث يدل على البداية المبكرة للاستيثاق من صحة المتن، ولكن كان ذلك على نطاق ضيق بسبب صدق الصحابة، وثقة بعضهم في بعض، يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: " ليس كلنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكن الناس كانوا لا يكذبون يومئذ فيحدث الشاهد الغائب"[7] . وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم احتاج الصحابة إلى تأكيد العناية بالاستيثاق من نقل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسلكوا عددا من الوسائل كطلب الشاهد أحيانا، كما في حديث قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهَا السُّدُسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ) [8] .
ومن الأساليب التي اتبعها الصحابة في التحقق من المتن عرضه على القرآن، كما في قصة فاطمة بنت قيس رضي الله عنها حين أخبرت عمر رضي الله عنه أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها سكنى ولا نفقة، فقال عمر: "لا نترك كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله عز وجل: { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}[الطلاق:1][9]. ومثل ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه قال: " ذُكِرَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَفَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ فَقَالَتْ وَهَلَ إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الْآنَ " [10].
ففي هذه الأمثلة كان الاستيثاق منصبا على المتن من حيث مضمونه دون السند ، ثم كانت هذه الطريقة هي طريقة من بعدهم من التابعين، فهذا الربيع ابن خثيم (61هـ) رحمه الله يقول: (إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار، نعرفه به، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها) [11] وعلى هذا النهج سار المحدثون فنظروا في المتون نظرات ناقدة مستبصرة ميزوا من خلالها بين الغث و السمين، مستندين إلى قرائن هي- في الأصل- مقاييس استقوها من أسلافهم الصحابة والتابعين، وطبقوها على كل حديث سواء أكان سنده صحيحاً أم ضعيفاً. ومن أهم القواعد في هذا الباب ما ذكره الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ في الرسالة حيث قال:" لا يستدل على أكثر صدق الحديث وكذبه إلا بصدق المخبر وكذبه، إلا في الخاص القليل من الحديث، وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله، أو ما يخالفه ما هو أثبت وأكبر بدلالات الصدق منه "[12] .فقد حدد رحمه الله لمعرفة خطأ الحديث– أي متنه– معيارين:
أولهما: التحديث بما لا يجوز مثله، أي بما يستحيل، ويشمل هذا الاستحالة من الناحية العقلية، أو من الناحية التاريخية.
والمعيار الثاني: التحديث بما يخالف ما هو أثبت، أي مخالفة الثابت المقرر. ومن العلماء الذين ذكروا تلك المقاييس في قواعد كلية الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه: "المنار المنيف في الصحيح والضعيف"، حيث حكم على كثير من الأحاديث بالوضع أو الضعف بالنظر إلى متونها حسب هذه المقاييس. [13]
ومما ينبغي التأكيد عليه أن التوثق من ثبوت الحديث من خلال النظر في المتن، وإعمال القواعد التي ذكرها العلماء ليست ميدانا مفتوحا لكل شخص دون تأهل، بل هي للعلماء الكبار الذين درسوا الحديث، وتعمقت درايتهم به، وجمع الله لهم بين الفقه والحديث، وقد سئل الإمام ابن القيم: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟ فأجاب قائلا
هذا سؤال عظيم القدر وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه وصار له فيها ملكة وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار ومعرفة سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه فيما يأمر به وينهى عنه ويخبر عنه ويدعو إليه ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه، فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وكلامه وما يجوز أن يخبر به وما لا يجوز ما لا يعرفه غيره وهذا شأن كل متبع مع متبوعه فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها والتمييز بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح ما ليس لمن لا يكون كذلك وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم والله أعلم ) [14]
- التحقق من ثبوت الحديث بالنظر في السند:
استجاب الصحابة رضي الله عنهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه، فكان الواحد منهم يحكي ما لديه من الحديث سواء أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة أو بواسطة دون أن يلتزم ببيان الواسطة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب ذلك عدم قيام الحاجة الملحة إلى البيان، حيث كان الناس على الفطرة النقية، والصدق والتحري وتعظيم النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول عبد الله بن الزبير: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يحدث فلان وفلان؟ قال: أما إني لم أفارقه، ولكن سمعته يقول: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار"[15]، لكن لما جاء عصر التابعين وكثر النقلة، واختلفت مراتبهم في العدالة والضبط تأكدت الحاجة إلى الإفصاح عن أسماء الرواة، وقامت المطالبة بتسميتهم، يقول ابن عباس رضي الله عنه: " إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا. وأصغينا إليه بآذاننا. فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف "[16]، ويقول محمد بن سيرين: " لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم"[17] ، وقال عبدالله بن المبارك " بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد"[18].
ومع توسع رواية الحديث وكثرة النقلة، وظهور الرحلة في طلب الحديث قامت الحاجة إلى الكلام على الرجال وبيان أحوالهم المؤثرة في قبول الرواية ، وظهر في مقابل كل حالة من أحوال الرواة ما تحتاجه من احتياطات وتفصيل في الكلام على الراوي، ومروياته، وأصبح الإسناد وعلومه منظومة متكاملة من القواعد والضوابط التي يميز بها بين المقبول والمردود من الروايات، ونظر إليه العلماء على أنه صمام الأمان لحفظ الدين يقول أبو عمرو الأوزاعي: " ما ذهاب العلم إلا ذهاب الإسناد "[19]، ويقول الإمام الحاكم: " فلولا الإسناد وطلب هذه الطائفة له وكثرة مواظبتهم على حفظه لَدَرَسَ منارُ الإسلام، وتمكن أهل الإلحاد والبدع منه بوضع الأحاديث وقلب الأسانيد، فإن الأخبار إذا تَعَرَّتْ عن وجود الإسناد فيها كانت بُتْرَاً "[20]، بل نظر إليه العلماء على أنه جزء من الدين، يقول عبدالله بن المبارك:" الإسناد من الدين. ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء " [21].
لقد نال الإسناد هذه المكانة لأنه يوفر رؤية واضحة لحركة المتن أثناء تنقله من لدن طرفه الأول الذي ينقل القول أو الحادثة إلى أن يصل طرفه الأخير وهو في الغالب صاحب الكتاب المدون، مرورا بحلقات الإسناد التي قد تطول أو تقصر بين الطرفين، وخلال هذه المسيرة رصد المحدثون كل حركة أو صفة تؤثر في الحكم على الرواية، لقد كان الإسناد هوالميدان الذي تجري فيه الملاحظة المباشرة للرواية التي يبنى عليها الحكم، بعيدا عن الافتراضات والظنون والأوهام، فأتاحت سلسلة الإسناد للناقد أن يتدخل بآلته في النقد و أن يفحص حالة الراوي في روايته، ويلاحظ بنفسه قدرة الراوي على نقل تلك الرواية على وجهها.
إن منهجية المحدثين في طلب الإسناد ودراسته تقوم على عدم التسليم بالرواية إلا إذا قام الدليل الذي يغلب معه ثبوت نسبتها إلى قائلـها. وقد بلغت هذه المنهجية الغاية في الدّقة العلمية في توثيق الروايات، وتمييز بعضها عن بعض بالفوارق اليسيرة، واستطاع العلماء النقاد تمييز كل متن، وكل لفظة لم يقم الدليل على ثبوتها.
ويتأسس الفهم الصحيح والتصور الواضح لمنهجية المحدثين في التحقق من ثبوت المتن من خلال دراسة الإسناد بالوقوف على الشروط الواجب توفرها في الرواية المقبولة. ومجموع هذه الشروط ستة، هي: العدالة، والضبط، واتصال السند وانتفاء الشذوذ، وانتفاء العلة القادحة .
ووجه دلالة هذه الشروط على قبول الحديث: أن العدالة ملكة تحمل صاحبها على فعل الطاعات واجتناب الموبقات والتنزه عن ما يخل بالمروءات؛ فاتصاف الراوي بالعدالة يطمأن معه إلى كفاءته الدينية والخلقية التي تمنعه من الكذب أو القول بغير علم .
وأما الضبط فهو أن يكون الراوي متيقظا غير مغفل، حافظا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه.[22] واتصاف الراوي بالضبط يطمأن معه إلى سلامة محفوظاته، و كفاءته في نقل الحديث، وأنه مؤهل لأن يروي الحديث كما سمعه .
واتصال السند هو أن ينقل الحديث من الراوي لمن دونه بواحدة من طرق التحمل المعتبرة، فيعرف به جميع الرواة، ويطمأن معه على عدم اختلال عنصري العدالة والضبط في أثناء السند [23].
وانتفاء الشذوذ هو عدم مخالفة الحديث لما هو أولى منه، وعدم تفرد الراوي بما لا يحتمل تفرده، ويحصل بنفي الشذوذ الاطمئنان بأن هذا الحديث الذي نبحثه بعينه قد ضبط وأنه لم يدخله وَهَم .
وانتفاء العلة أن لا يوقف في الحديث على قادح خفي، ويحصل بنفي العلة الاطمئنان بأن هذا الحديث الذي نبحثه بعينه قد سلم من القوادح الخفيَّة بعد التأكد من سلامته من القوادح الظاهرة [24].
ثم إن التحقق من توفر هذه الشروط يقوم على منهجية علمية، بعيدة كما أسلفنا عن مجرد الحدس، أو الخرص، فمعرفة عدالة الراوي يتوصل إليها من خلال المشاهدة والملاحظة، وينص عليها الأئمة الذين عاصروه بما عرفوا عنه من الديانة والخلق . والرواة في هذا على مستويات فمنهم من ذاع صيت عدالته واشتهر بها، ومنهم من عرفه القريبون منه فقط . وفي الغالب يكون علماء الجرح والتعديل قد ذكروا في مؤلفاتهم ما يوضح حال الراوي وعدالته، فإذا لم تصل المعلومات عنه إلى درجة التزكية المعتبرة، فإن صرامة المنهج تعده مجهولا لا يقبل خبره ولا يوثق بروايته [25].
ومعرفة الضبط تقوم أيضا على أساس الدراسة الواقعية والمقارنة، يقول ابن الصلاح:" يعرف كون الراوي ضابطا بأن نعتبر رواياته بروايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان فإن وجدنا رواياته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتهم أو موافقة لها في الأغلب، والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه ضابطا ثبتا، وإن وجدناه كثير المخالفة لهم عرفنا اختلال ضبطه ولم نحتج بحديثه"[26].
ثم إن هذه التزكية العامة في العدالة والضبط لا يعني الحكم بعصمته، وبراءته من الخطأ في بعض حديثه[27]، وهذا ما يكشفه البحث عن انتفاء الشذوذ والعلة، وذلك بمتابعة هذا الراوي الثقة فيما روى كيف روى، و بدراسة كل حديث بعينه عند كل الرواة الذين رووه، و الوقوف من خلال المعرفة التفصيلية بأحوال الرواة، والروايات على الخطأ إن وجد، ذلك أن الحديث قد يستوفي في الظاهر عناصر القبول، فيتوهم الناظر إليه أنه صحيح، ولكنه يحمل في طياته علة قادحة، كأن يكون الراوي حدث بالحديث في بلد غير بلده، والمعروف عنه أنه إذا خرج من بلده وقع في الخطأ لمفارقته كتبه وبعده عنها، أو أن يكون الراوي ممارساً متقناً لأحاديث شيوخه، إلا واحداً منهم لم يتمكن من إتقانه وممارسته، وقد يذهب الراوي في سندٍ وهو يريد غيره، وقد يروي بالمعنى فيختصر الحديث، فيغير حقائقه وهو لا يشعر، فهذه الحالات وأمثالها كثير لا يقع عليها حصر، ولا تدرك بالنظر العابر ، وإنما يدركها الباحث المتخصص، بعد البحث، والناقد الجهبذ الذي لديه دراية واسعة بالرجال وبمصطلحات القوم، وحفظ واسع للروايات، ودراية دقيقة بمخارج الأسانيد، وبمن يدور عليه الإسناد في كل بلد، وفي كل طبقة .
ويتضح لنا من هذا البيان لمنهجية المحدثين في الإسناد أنهم لم يقفوا عند مجرد الرواية، وأن جمع الروايات بأسانيدها وطرقها المتعددة لم يكن ترفا علميا، بل كان مقصودا لدى جهابذة النقاد، وقد صاحب الإسناد في كل طبقاته عملية توثيقية بالغة الإتقان في الرواية تحملا وأداء، وفي كتابة الحديث تصحيحا وتدقيقا، وفي الرواة جرحا وتعديلا، وفي معرفة الروايات نقدا وتعليلا .
لقد أتاح الإسناد للنقاد أن يتناولوا النصوص والآثار بمنهجية علمية مبنية على أعلى الشروط من الدقة والموضوعية والأمانة، وقد طور المحدثون منهجهم في النقد، وبنوا له قواعد وأصولا تضبط ممارسته، وتبتعد بالناقد عن الخطأ، وتقلل احتمالات الوقوع فيه .
ثم إنهم توجوا هذه الجهود بتحرير المصنفات المحررة في الحديث رواية ودراية، فصنفوا في أسماء الرجال، وبينوا رتبهم في الجرح والتعديل، وصنفوا في العلل وبينوا أحوال الرجال فيها، وصنفوا مصنفات تبين السنن، ومصنفات مخصصة للأحاديث الصحيحة، ومصنفات للأحاديث الواهية والموضوعة، الأمر الذي يمكن معه معرفة الأحاديث الصحيحة، ويمكن معه أيضا الاطلاع على منهج المحدثين في النقد والحكم على الأحاديث وتطبيقه في كل زمان لمن درس هذا المنهج و أصبحت لديه دراية به ودربة في تطبيق أحكامه .
وخلاصة القول:
إن من الثابت، والمعلوم بالضرورة أن السنة هي الأصل الثاني للتشريع، وإن أول ما يجب على المستدل بالحديث والمتعامل معه أن يتحقق مـن صحّة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
وإن من المعلوم بالضرورة أن منهج المحدثين في رواية السنة، وقواعدهم في الحكم على الأحاديث قبولا أو ردا هو المنهج الذي نقلت إلينا به السنة، فهو منهجها الخاص الذي رافق مسيرة تدوينها، وثبتت صحته ودقته، وتم تطبيقه عمليا ولا زال ممكنا، وهو المنهج الذي ارتضاه علماء المسلمين عبر عصورهم، وهو المنهج الذي بنوا عليه دراساتهم في تقرير الأحكام في الفقه والعقيدة والتفسير، ولا يسع المتأخرين أن يقرروا في تمييز المقبول والمردود من المرويات منهجا آخر يتنكر للقواعد التي قعدوها، وإنما الرشاد في السير على نهجهم، و بذل الجهد في فهم طرائقهم في القبول و الرد، وإن كان من تطوير ففي وسائل الفهم والنقل، والاستفادة مما وصل إليه الإنسان، أو سيصل إليه من تقنيات تخدم هذا العلم، وتلك القواعد وتسهل جمعها، وتذلل كثيرا من وعورة البحث في الكتب والمخطوطات، وتختصر على الباحث الوقت والجهد .
المحور الثاني: فهم النص النبوي في ضوء النصوص الأخرى .
تقدم أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل من أصول التشريع، قد عني به الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمة، وأن العلماء قد بذلوا جهودا كبيرة لرسم قواعد يمكن من خلالها فهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهما صحيحا، والوقوف على مراده صلى الله عليه وسلم. وقد كانت هذه القواعد محل عناية العلماء، أضفوا عليها من خلال بحوثهم وتطبيقاتهم ما زادها أصالة وقوة ورسوخا. والأخذ بهذه القواعد عاصم بأمر الله من الشطط في فهم السنة النبوية، وهو من الأهمية بمكان، وتزداد أهميته في هذا العصر الذي كثرت فيه المستجدات والنوازل التي تحتاج من المتخصصين ومن المجامع العلمية إعمال النظر في الأدلة الشرعية للكشف عن الأحكام الشرعية فيها، ومما يؤكد الحاجة تجرؤ غير المتخصصين على الخوض في تفسير النصوص الشرعية على غير هدى، وبما لا يتفق مع أصول الفهم الصحيح، بل خاض في ذلك غير المسلمين، والمغرضون، وأظهروا أقوالهم وآراءهم ونشروها على صفحات الكتب والصحف، وفي وسائل الإعلام والمنتديات، الأمر الذي يستوجب تحرك العلماء والمؤسسات العلمية، وتناديها إلى دفع الأضرار الناتجة عن هذا العبث، من خلال بيان المنهج العلمي في تفسير النصوص الشرعية وإظهاره، ومن خلال تبني منظومة من البرامج تهدف إلى أن يصبح هذا المنهج جزءا من ثقافة المجتمعات المسلمة، ووسيلة لتحصين المسلمين من المفاهيم الخاطئة .
إن تفسير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، و بيان معناه يعني الحكم بأن هذا التفسير، وذلك المعنى هو ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم من كلامه، وهو الذي رام إبلاغه للسامع، فهو رواية عنه بالمعنى، وشهادة عليه بأنه يعني بكلامه كذا وكذا، وتوقيع عنه في أحكامه. و هذا أمر لا يمكن أن يجزم به إنسان إلا أن يحصل على إقرار من الرسول صلى الله عليه وسلم . ولتعذر الحصول على هذا الإقرار بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن السبيل إلى إدراك قصده هو جمع القرائن التي يحصل بها ظن غالب أن هذا هو المعنى الذي قصده النبي صلى الله عليه وسلم[28] .
ويمكن أن نصنف هذه القرائن إلى قسمين يمثل كل واحد منهما مستوى من مستويات البحث:
القسم الأول: هو اللغة.
القسم الثاني: هو النصوص الشرعية الأخرى .
ونوضح ذلك فيما يلي:
القسم الأول: اللغة:
اللغة: هي الوسيلة التي ينقل بها الكلام، والقوالب التي تسكن فيها المعاني، ومن البدهيات أنه لا يمكن فهم الكلام ولا استيعاب دلالته سواء كان منطوقا أو مكتوبا، إلا بمعرفة لغة الخطاب والتمكن من لسان المتكلم أو الكاتب، كي يدرك معاني الكلمات والأجزاء والمركبات التي انتظمت في المقال المكتوب أو المنطوق.
وهذا الإدراك هو بداية الطريق إلى معنى الخطاب، وجزء من أجزاء فهم النص، ومع أهمية هذا الإدراك إلا أنه- في كثير من الأحيان- لا يكفي في معرفة قصد المتكلم، لأنه لا يفيد إلا المعنى الظاهر للخطاب[29]، وقد لا يكون هو المعنى الذي يقصده صاحب الخطاب، يقول الإمام ابن العربي: " ليس كل محتمل للفظ مرادًا به فيه، وهذا من نفيس علم الأصول"[30]، ويقول الإمام الشاطبي: " فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض إلا في موطن واحد وهو النظر في فهم الظاهر بحسب اللسان العربي وما يقتضيه لا بحسب مقصود المتكلم"[31]، وبناء عليه فإن الدلالات التي تحتملها ألفاظ الأحاديث النبوية، ولم يقصدها النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يفسر بها كلامه، ولا يصح أن يقال هي معنى كلامه صلى الله عليه وسلم .
ويرجع سبب عدم الاكتفاء- في كثير من الأحيان- بدلالة الألفاظ والتركيبات اللغوية على إدراك قصد المتكلم إلى أمور أهمها[32]:
1- طبيعة اللغة، وما تضمنته من الخصائص التي تجعل النص من اللغة لا يستقل بذاته ولا يكتفي بنظام اللغة وقوانينها للإفصاح عن المراد، ففي اللغة- على سبيل المثال - أنواع من الخطاب لها أكثر من معنى، كاللفظ المشترك الذي وضع لأكثر من معنى، ومنه أيضا وجود المجاز والحقيقة. ولاشك أن الناظر لمعرفة أي النوعين استعمله المتكلم، يحتاج إلى عناصر خارجة عن مبنى الخطاب. صحيح أن السياق يوضح المعنى في أحيان كثيرة، لكن الصحيح أيضا أنه في أحيان كثيرة أخرى لا ينفي الاحتمال[33].
2 - طبيعة الحديث النبوي الشريف، فإن هناك عددا من السمات المؤثرة فيما نحن بصدده ،من أهمها:
أ - فصاحة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقوة بيانه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أفصح العرب ويستخدم لغة فنية رفيعة، وقد أوتي جوامع الكلم، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت بجوامع الكلم "[34] . أي أنه ينطق بكلمات قليلة فيها المعاني الكثيرة . وبناء على ذلك فإن التفسير اللغوي المعجمي لألفاظ كلامه لا يمكن أن يعطي جميع المعاني التي قصدها، بل يحتاج إلى نظر آخر.
ب- أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بلغته العربية في أحوال مختلفة، ومقامات متباينة، فيأتي كلامه وخطابه مناسبا لظروفه وملابساته، وعلى وفق ما يقتضي المقام . وبسبب شدة ارتباطه بالمقام لا يمكن الاكتفاء بألفاظ الحديث وحدها في فهم المراد، بل يلزم بالضرورة استحضار قرائن الحال من أسباب الورود والسياق بكل أدواته التي تسْهم في الوصول إلى الفهم التكاملي الصحيح، وهذه القرائن تنقل في الغالب في نصوص مستقلة غير مقترنة بالنص المراد فهمه . يقول الإمام الشاطبي في بيان أهمية أسباب الورود: " ولتعين المناط مواضع منها: الأسـباب الموجبـة لتقرير الأحكام، كما إذا نزلت آية، أو جاء حديث على سبب؛ فإن الدليل يأتي بحسبه، وعلى وفاق البيان التمام فيه..، فهذه المواضع وأشباهها مما يقتضي تعيين المناط لا بد فيها من أخذ الدليل على وفق الواقع بالنسبة إلى كل نازلة "[35] . ويقول الإمام ابن القيم:"السياق يرشد إلى تبيين المجمل، وتعيين المحتمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم، فمن أهمله غلط في نظره، وغالط في مناظرته"[36]. ويقول الإمام الشاطبي في بيان دور مقتضيات الأحوال في معرفة مقاصد الكلام:" معرفة مقاصد كلام العرب إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطبين وبحسب غير ذلك، كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال…" [37]
إن الإعراض عن استحضار هذه العناصر المؤثرة يوقع في فهم لا يستقيم مع قواعد اللغة، وقد يتصادم مع مسلمات الشريعة المعلومة المقررة. ويمكن أن نلمس هذا في حديث أبي أمامة رضي الله عنه حين نظر إلى آلة حرث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الله الذل." [38]، فهذا الحديث يفيد بظاهره ذم الاشتغال بالحرث والزرع بلا قيد، وهو معنى ترفضه نصوص كثيرة من القرآن والسنة، ويرفضه الواقع العملي لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في المدينة، إذ هي أرض ذات نخل وزرع، وفي بيوتها ترعرعت العزة الإسلامية، وركب صهوتها الأنصار، وهم أهل حرث وزرع، فلا بد من البحث عن الظرف الذي قيل فيه هذا الحديث، وملابساته، كي يمكن تفسيره بما لا يتعارض مع ما هو معلوم بالضرورة .
ج - أن الحديث قد يكون فعلا . وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته في المواقف التي تعرض له يحكيها أصحابه ممن شهد وحضر، وقد ينقل الصحابي جزءا من الصورة، بينما ينقل آخر جزءا آخر، فلا يمكن أن تكتمل الصورة إلا باستيعاب جميع الأجزاء من جميع الروايات، ولذلك عني المحدثون بجمع المتابعات والشواهد، وعنوا بالمقارنة بين متون الأحاديث وما حصل بينها من الاختلاف والزيادة والنقصان باختلاف رواتها، يقول الإمام أحمد: " الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تفهمه، والحديث يُفَسِّر بعضه بعضاً "[39] .
القسم الثاني: النصوص الشرعية:
النصوص الشرعية: هي المستوى الثاني من مستويات البحث، والقسم الثاني من أقسام القرائن التي يستدل بها على معنى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم .
ونقصد بالنصوص الشرعية كل النصوص التي لها علاقة مؤثرة في معنى النص الذي يراد بيان معناه، سواء كانت هذه العلاقة قريبة أم بعيدة، فتشمل آيات القرآن، وروايات الحديث، والأحاديث الأخرى، وما يلحق بذلك من المعاني المعلومة من الدين بالضرورة التي بنيت في الأساس على نصوص من الكتاب والسنة، ذلك أن النصوص الشرعية نصوص متكاملة، يصدق بعضها بعضا، ويبين بعضها ما أجمل في الآخر، ويفسر بعضها ما أشكل في غيره . وفهم الحديث النبوي في ضوء هذه النصوص، مطلب أساسي مسلم به في منهج المعرفة، ذلك أن النظر في مسألة من المسائل العلمية- بقصد تحقيقهاـ، أو شرحها وتفسيرها، أو معرفة خصائصها، أو فحصها ومعرفة صحتها من عدمها لا يكفي فيه الاقتصار على النظر في المسألة بذاتها والتأمل فيها وفي جزئياتها المتصلة بها، بل لا بد أن يضم إليها أمور أخرى تتوقف عليها سلامة النتائج المستخرجة [40]. هذه الأمور تعرف من خلال النظر الواسع في النصوص، والقراءة الجامعة التي تضع الجزئيات في إطار الكليات، وتلحق الفروع بأصولها، يقول الإمام الشاطبي: "فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض... ""[41] ويوضح رحمه الله أن هذا المنهج هو منهج الراسخين من العلماء فيقول: "أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها...وشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها بعضًا كأعضاء الإنسان...وشأن مبتغي المتشابهات أخذ دليل ما، أي دليل كان، عفوًا وأخذًا أوليًا، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي.. " [42]. وكلما كان استحضار هذه الجزئيات أشمل، كان فهم مراد المتكلم من كلامه أدق، و العكس بالعكس، يقول الشاطبي ـ رحمه الله تعالى ـ : "وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة، فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه" [43].
لقد كان هذا المنهج التكاملي في فهم الحديث حاضرا عند الصحابة رضي الله عنهم، فقد وظفوا مجموع ما تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم في فهم كل قول من أقواله، وفي تفسير كل فعل من أفعاله صلى الله عليه وسلم، وتتجلى نتائج هذا المنهج في ممارساتهم و تطبيقاتهم العملية، نرى هذا الفهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ:" قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْأَحْزَابِ لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمْ الْعَصْرُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ" [44] ,فالصحابة الذين صلوا قبل أن يصلوا إلى بني قريظة نظروا خارج النص .
ونرى هذا الفهم أيضا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم عند سيدنا أبي بكر رضي الله عنه حينما عزم على قتال مانعي الزكاة فقال له عمر: يا أبا بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسـول الله - صلى الله عليه وسلم ـ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله . قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها." [45]، فأبو بكر رضي الله عنه لم يترك العمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكره له عمر؛ ولكنه فهمه في ضوء مسلمات شرعية أخرى مستفادة من النصوص الشرعية، لذلك وافقه عمر وغيره من الصحابة، وقاتلوا معه .