تدوين السنة
منى ناصر الطيار
تقديم
الإسلام دين عظيم أهتم بكل جوانب الحياة الإنسانية، ومنها أنه حث على طلب العلم والتزود منه، ولم يحدد سناً معينة أو زمناً يتوقف عنده المرء عن طلب العلم، ولم يفرق بين المرأة والرجل، وبهذه الدعوة تقع على كل مسلم مسؤولية تبليغ هذا الدين، ودعوة الناس كافة لاعتناقه، مستخدماً في ذلك ما وهبه الله من علم شرعي، وفهم صحيح لهذا الدين، وقدرة على توصيل ذلك إلى الآخرين، سواء بالقدوة والممارسة العملية لما يدعو إليه، أو بالنصح والموعظة والإقناع مع عدم إغفال جانب القدوة، وهكذا نحمل جميعاً أمانة تبليغ هذا الدين ونشره بين الناس لكن بالحسنى.
. ومن صور تبليغ هذا الدين:
- تعريف المسلمين بالسنة النبوية وتاريخها والمراحل التي مرت بها قبل التدوين.
- بدايات التدوين وجهود الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين في حفظ السنة وجمعها.
- إظهار مدى حرص الصحابة وتابعيهم على السنة تلقيا وأداء، وبيان أثرهم في ذلك.
ولا يفوتنا بيان أهمية السنة ومنزلتها في التشريع الإسلامي، فهي الشارحة للقرآن الكريم والمبينة له، وفيها يتمثل التفسير النظري والتطبيق العملي لكتاب الله - تعالى -، الذي هو المصدر الأصلي للعقيدة والأخلاق والأحكام، وبالتالي تكون السنة النبوية المصدر الثاني للشريعة الإسلامية من حيث الثبوت عند المسلمين لا من حيث الالتزام.
وقد حرصت على الالتزام بالأحاديث المقبولة، وابتعدت عن الأحاديث الضعيفة والواهية، وقد كان من العسير بمكان أن أحصر أهم الجوانب في تاريخ السنة وأطوارها، وتلخيصها في هذه الصفحات، حيث لا مجال لإشباع بعض الموضوعات وإعطائها حقها بذكر تفاصيلها.
وأسأل الله العلي القدير أن يتقبل عملي هذا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يعينني على خدمة كتابه وسنة نبيه، هو ولي ذلك والقادر عليه، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفصل الأول
معنى السنة
السنة في اللغة:
هي الطريقة (1) والسيرة حسنة كانت أو سيئة، وعند الإطلاق تنصرف إلى السنة الحميدة، ومنه قوله - تعالى -: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [النساء: 26] قال الإمام الحافظ ابن كثير في معنى الآية: يعني يهديكم طرائقهم الحميدة، واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها. (2)
وقال - تعالى -: (سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) [الإسراء: 77] قال ابن كثير: أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا. (3)
يستخلص من هذه النصوص القرآنية أن الكلمة استعملت في القرآن الكريم بمعنى الطريقة والعادة.
وفي الحديث النبوي جاءت بمعنى الطريقة والسيرة، ومنه ما أخرجه مسلم بسنده عن جرير بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)). (4)
ومنه ما رواه الشيخان -البخاري ومسلم- عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ))، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: ((فَمَنْ؟)) (5)
السنة في الاصطلاح:
السنة في الاصطلاح يختلف معناها باختلاف مناهج العلماء.
السنة عند المحدثين:
هي أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وتقريراته، وصفاته الخِلْقية والخُلُقية، وسيرته ومغازيه، سواء كان ذلك قبل البعثة مثل: تحنثه (6) في غار حراء، وحسن سيرته، وأنه كان أمياً لا يقرأ، وما إلى ذلك من صفات الخير، أو بعد البعثة. (7)
وتعريفهم هذا مبني على عنايتهم بإثبات وتصحيح كل ما يتصل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أقوال، أو أفعال، أو تقريرات، وخلق وسيرة وشمائل، وأخبار، سواء أثبتت أحكاماً شرعية أم لا. (
مثال القول:
ما تحدث به النبي - صلى الله عليه وسلم - في مختلف المناسبات والأغراض بما يتعلق بتشريع الأحكام، كقولـه - عليه الصلاة والسلام -: ((إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّياتَِ)) (9) وقوله: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)) (10)
مثال الفعل:
ما نقله الصحابة -رضوان الله عليهم- إلينا من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - في شؤون العبادة وغيرها، كأداء الصلوات الخمس وأركانها وكيفيتها، ومناسك الحج، وآداب الصيام، وقضائه - صلى الله عليه وسلم - بالشاهد واليمين وما إلى ذلك.
مثال التقرير:
ما أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أفعال صدرت من بعض أصحابه بسكوت منه، مع دلالة الرضا، أو بإظهار استحسان وتأييد، فيعتبر ما صدر عنهم بهذا الإقرار والموافقة صادراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
مثال الأول: سكوت مع دلالة الرضا:
إقراره - صلى الله عليه وسلم - لاجتهاد الصحابة -رضوان الله عليهم- من أمر صلاة العصر، في غزوة بني قريظة حين قال لهم: ((لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إَِّلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ)) (11)
فقد فهم بعض الصحابة هذا النهي على حقيقته فأخرها إلى ما بعد المغرب، وفهمه البعض الآخر على أن المقصود حث الصحابة على الإسراع فصلاها في وقتها، وبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعل الفريقان فأقرهما، ولم ينكر على أحدهما ما فعل.
مثال الثاني: إظهار استحسانه وتأييده:
ما جاء عن خالد بن الوليد - رضي الله عنه - أنه أكل ضباً قُدِّم عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، بينما امتنع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكله، فقال بعض الصحابة: أو يحرم أكله يا رسول الله؟ فقال: ((لا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِأَرْضِ قَوْمِي فَأَجِدُنِي أَعَافُهُ)) (12)
مثال الصفات الخلْقية:
ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: " كَانَ رَسُولُ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلا بِالْقَصِيرِ، وَلَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَق(13)،ِ وَلَيْسَ بِالأدَمِ(14)، وَلَيْسَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ(15)، وَلا بِالسَّبْطِ(16)" (17)
مثال عن الصفات الخُلُقية:
ما أخرجه البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "لَمْ يَكُنْ سَبَّابًا، وَلا فَحَّاشًا، وَلا لَعَّانًا، كَانَ يَقُولُ لأحَدِنَا عِنْدَ الْمَعْتِبَةِ: ((مَا لَهُ، تَرِبَ جَبِينُهُ)) (18)
السنة في اصطلاح الفقهاء:
هي كل ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب، ويقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة.(19)
ويمكن تعريفها أيضاً بأنها الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب (20)، بمعنى النافلة والمندوب، مثل: الرواتب، وصيام الاثنين والخميس وغيرها.
وتعريفهم هذا مبني على عنايتهم بالحكم. (21)
السنة عند الأصوليين:
ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من الأقوال والأفعال والتقرير. (22)
وتعريفهم هذا مبني على عنايتهم بالدليل، ومنه السنة التي أمرنا باتباعها. (23)
السنة عند علماء العقيدة والوعظ والإرشاد:
ما وافقت الكتاب والحديث وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات، وتقابلها البدعة، ومن هنا استعمل الاصطلاح المشهور ((أهل السنة)). (24)
وتعريفهم هنا مبني على عنايتهم بالأعمال التعبدية وموافقتها للدليل، وردّ ما خالف ذلك.
وهكذا نرى أن أوسع الإطلاقات هو إطلاق المحدثين الذين يقصدون بالسنة: كل أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خُلقية أو خِلقية، أو سيرة، سواء كان ذلك قبل البعثة أو بعدها، وسواء أثبتت حكماً شرعياً أم لا.
-------------------
(1) انظر مادة سنن في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، ولسان العرب لابن منظور، والهادي إلى لغة العرب لحسن سعيد الكرمي.
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 1/ 479.
(3) تفسير ابن كثير: 3/53.
(4) أخرجه مسلم في كتاب الزكاة ح69 ? (1017).
(5) أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم ح7320، ومسلم في كتابه العلم ح6- (2669).
(6) تحنثه: تعبده. انظر النهاية واللسان والهادي.
(7) الحديث والمحدثون: 10، السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي: 47.
(
المستشرقون والسنة: 26.
(9) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي باب كيف كان بدء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ح7، ومسلم في كتاب الإمارة ح155 (1907).
(10) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب: إذا بيّن البيعان ولم يكتما.. ج 2079، ومسلم في كتاب البيوع ح47 (1532).
(11) أخرجه البخاري في كتاب المغازي، باب: مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب... ح 4119، ومسلم في كتاب الجهاد والسير ح69 (1770).
(12) أخرجه مسلم في كتاب الصيد والذبائح ح43 (1945).
(13) الأمهق: شديد البياض كلون الجص. انظر النهاية واللسان والهادي.
(14) الآدم: الأسمر. انظر النهاية واللسان والهادي.
(15) القطط: جعد الشعر كشعر الزنجي. انظر النهاية واللسان والهادي.
(16) السبط: المنبسط المسترسل لا جعودة فيه. انظر النهاية واللسان والهادي.
(17) أخرجه البخاري في كتاب اللباس باب الجعد ح5900، ومسلم في كتاب الفضائل ح93 (2337) بمعناه و ح94 (2338) بمعناه.
(18) أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا متفاحشاً ح6031، ومسلم في كتاب الفضائل ح68 (2321) بمعناه.
(19) السنة ومكانتها في التشريع: 48.
(20) الحديث والمحدثون: 10.
(21) المستشرقون والسنة: 27.
(22) الحديث والمحدثون: 9.
(23) المستشرقون والسنة: 27.
(24) الحديث والمحدثون: 10