وقد كان الصحابة يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الله في بعض ما يعرض لهم، يروي البخاري عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - أن امرأة أخبرته أنها أرضعته هو وزوجه، فركب من فوره من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم – بالمدينة، فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم –: ((كيف وقد قيل؟)) ففارق زوجه لوقته وتزوجت بغيره..
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - حريصين على أن يسألوا أزواج النبي -رضوان الله عليهن- عن سيرته وسنته في بيته، وكانت النساء يذهبن إلى بيوت أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- يسألنهن عما يعرض لهن وهذا معروف مشتهر غني عن ذكر شاهد أو مثال.
بل لقد بلغ من حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على الالتزام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يلتزمون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة، ودون أن يسألوا عن ذلك ثقة منهم بأن فعله - صلى الله عليه وسلم – وحي، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: "اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إني لن ألبسه أبداً)) فنبذ الناس خواتيمهم ". (24)
وروى القاضي عياض في كتابه " الشفا " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعها عن يساره، فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال: ((ما حملكم على إلقاء نعالكم))؟ قالوا: يا رسول الله، رأيناك ألقيت نعليك، فقال: ((إن جبريل أخبرني أن فيهمــا قذراً)) (25)
وأورد ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله ": عن ابن مسعود - رضي الله عنه - " أنه جاء يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فسمعه يقول: ((اجلسوا))، فجلس بباب المسجد أي حيث سمع النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول ذلك، فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((تعال يا عبد الله بن مسعود)).
إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة -رضوان الله عليهم- على معرفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع أحواله والالتزام بها والاستجابة لأمره ونهيه من فورهم كما فعل عبد الله بن مسعود، ومن غير أن يدركوا حكمة الفعل كما في إلقائهم نعالهم في الصلاة ونبذهم خواتيم الذهب ولم يكن ذلك إلا استجابة لله - تعالى - في أمره بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به كما في قوله - عز وجل -: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (26)، ثم استجابة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمره الأمة باتباع سنته والالتزام بها كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا عني مناسككم)) (27)، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) (28). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: ((من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)) (29)، وقوله - صلى الله عليه وسلم – ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة.. )). (30)
هذا قليل من كثير مما يبين موقف الصحابة -رضوان الله عليهم- من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو موقف يتسم بالحرص الشديد والاهتمام البالغ على معرفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظها والالتزام بها بل وتبليغها إلى من يسمعها، استجابة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نضر الله امرءاً سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع)). (31)
ومن هذا يتبين مدى كذب أعداء السنة وأعداء الله ورسوله في ادعائهم الذي سلف ذكره.
3- وأما دعواهم بأن كبار الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يكرهون رواية الحديث، وكان عمر - رضي الله عنه - يتهدد رواة السنة، وأنه نفذ وعيده فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السنة، فهذا كذب يضاف إلى ما سبق من دعاواهم الكاذبة، وفيه جانب من التدليس الذي لا يخلو عنه كلامهم.
أما أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا يكرهون رواية الحديث فهذا باطل، والحق أنهم كانوا يخشون روايتها ويهابون من ذلك لعظم المسؤولية ووعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من يكذب عليه في قوله - عليه السلام – ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) (32)، ولقد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- بين أمرين هم حريصون على كل منهما، أولهما: تبليغ دين الله إلى من يليهم من الأمة، ثانيهما: التثبت والتحري الشديد لكل ما يبلغونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لذلك كان الواحد منهم يمتقع وجهه، وتأخذه الرهبة وهو يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فالصواب إذن: أن الصحابة كانوا يهابون رواية الحديث بسبب شدة خوفهم من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الخطأ فيما يروون، وليس كما يزعم هؤلاء أن ذلك لأنهم كانوا يرون السنة غير شرعية أو أنها ليست مصدراً تشريعياً.
أما دعوى حبس عمر - رضي الله عنه - ثلاثة من أصحابه هم: عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء - رضي الله عنهم - فهذه رواية ملفقة كاذبة، جرت على الألسنة، وقد ذكرها البعض كما تجري على الألسنة وتدون في كتب الموضوعات من الأحاديث والوقائع، فليس كل ما تجري به الألسنة أو تتضمنه بعض الكتب صحيحاً، وقد تولى تمحيص هذه الدعوى الكاذبة الإمام " ابن حزم " - رحمه الله - في كتابه: "الإحكام" فقال: "وروي عن عمر أنه حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء وأبا ذر من أجل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم –.." وبعد أن طعن ابن حزم في الرواية بالانقطاع محصها شرعاً فقال: "إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو: إما أن يكون عمر اتهم الصحابة وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث وتبليغ السنة وألزمهم كتمانها وعدم تبليغها وهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقول به مسلم، ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين فلقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات أي الطريقين الخبيثين شاء " (33).
الشبهة السادسة:
ومن شبهاتهم أيضاً: أن بين السنة والقرآن تعارضاً في الكثير -كما يزعمون- أن السنة تتعارض فيما بينها، ويرتبون على ذلك النتيجة التي قدموا لها بأنه لا داعي للأخذ بالسنة أي بالأحاديث النبوية.
الرد على هذه الشبهة:
إن علماءنا الأفاضل وقفوا أمام شبهة التعارض المزعومة هذه سواءً كانت تعارضاً مزعوماً بين القرآن والحديث أو بين الأحاديث بعضها مع بعض، ومن أمثلة التعارض الأول -حسب زعمهم- أي: التعارض بين القرآن والسنة: أن يأمر القرآن بقراءة ما تيسر من القرآن في الصلاة في قوله (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن)، ثم يقول الحديث النبوي: ((لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)). فنقول ببساطة شديدة: أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون تعارضاً أبداً ولكنه تخصيص للعام، وهذا الأمر من بديهيات علوم الشريعة، فأمر القرآن عام خصصته السنة النبوية، ومثله قول القرآن: (وأحل الله البيع وحرم الربا) فهو عام في كل أنواع البيع؛ لكن يجئ الحديث النبوي ليخصص أنواعاً بعينها بطريقة بعينها في البيع فيقول: ((الذهب بالذهب مثلاً بمثل ويداً بيد والفضل ربا… إلخ))، ولا تعارض لأن السنة وهي البيان التفصيلي لما يجمل في القرآن كما تصرح الآية (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم).
ومن النوع الثاني: أي: تعارض حديث مع حديث: ما روي عن استحباب الوضوء بعد الأكل من طعام مسته النار مثل: ((من أكل لحم جزور فليتوضأ)) و((توضؤوا فيما مست النار))، ثم جاء الحديث الآخر ((كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو ترك الوضوء مما مست النار))، فلا تعارض هنا؛ ولكن الحديث الأخير غير الحكم في الحديث الذي سبقه فهو ما يسميه علماء الحديث النسخ، أي تغيير: المتأخر للحكم المتقدم ولا تعارض فيه.
ومسائل كثيرة قد تحدث شبهة: كاستثناء الخاص من العام، كقوله - تعالى -: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)، ثم يأتي الحديث ليقيد حج النساء باشتراط أن يكون مع المرأة محرم ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها أو ابنها أو زوجها أو أخوها أو ذو محرم منها))، فهذا استثناء للخاص من العام وأيضاً لا تعارض فيه.
فهذه المسائل وغيرها... قد عنى بدراستها وتوضيح ما يصنع الشبهة فيها عنى بها علماء السنة وأفردوا لها التصانيف المختلفة التي حولتها من مواطن اشتباه أو مآخذ -كما يتلمس الكارهون- إلى حيث أصبحت جميعها مصدر سعة وثراء ورفع للحرج عن الإنسان في التشريع الإسلامي يحسب له ولا يعاب عليه.
الشبهة السابعة:
إن حَمَلَةَ السنة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم كانوا جنوداً للسلاطين والملوك في العصر الأموي والعباسي، فكانوا يضعون لهم من الأحاديث ما يوافق رغباتهم ويثبت ملكهم.
الرد على هذه الشبهة:
ولقد أجاب الدكتور "مصطفى السباعي" على هذا الزعم الباطل في كتابه "مكانة السنة في التشريع الإسلامي" فقال: "إن أعداء الإسلام من غلاة الشيعة والمستشرقين ودعاة الإلحاد لم يصلوا ولن يصلوا إلى مدى السمو الذي يتصف به رواة السنة من الترفع عن الكذب حتى في حياتهم العادية، بل ولن يصل أعداء الإسلام إلى مبلغ الخوف الذي استقر في نفوسهم بجنب الله خشية ورهبة، ولا مدى استنكارهم لجريمة الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قال منهم من قال بكفر من يفعل ذلك وقَتْلِهِ وعدم قبول توبته. إن أعداء الإسلام معذورون إذ لم يفهموا عن علمائنا هذه الخصائص؛ لأنه لا يوجد لها ظل في نفوسهم ولا فيمن حولهم، ومن اعتاد الكذب ظن في الناس أنهم أكذب منه، واللص يظن الناس لصوصاً مثله، وإلا فمن الذي يقول في قوم جاهروا بالإنكار على بعض ولاتهم لأنهم خالفوا بعض أحكام السنة، وتعرض بعضهم للضرب والإهانة والتنكيل في سبيل الجهر بكلمة الحق، من يقول: إن هؤلاء استباحوا لأنفسهم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليضيفوا إلى سنته أحكاما لم يقلها". ا هـ
نعم، إن قوماً لم يحابوا في حكمهم على الرجال أحداً: لا أباً ولا ابناً ولا أخاً ولا صديقاً ولا شيخاً، إن ذلك لَعُنوَانُ صدق ديانتهم ونزاهتهم وأمانتهم، وعنوان إجلال الحفاظ للسنة النبوية الشريفة، وأنها عندهم أغلى من الآباء والأجداد والأولاد والأحفاد فكانوا مضرب المثل في الصدق والتقوى والأمانة.
وهاك أمثلةً على نزاهتهم في حكمهم على الرجال:
1- المُجَرِّحُونَ لآبائهم:
الإمام علي بن المديني سئل عن أبيه فقال: "سلوا عنه غيري" فأعادوا المسألة، فأطرق ثم رفع رأسه فقال: "هُوَ الدِّينُ، إِنَّهُ ضَعِيفٌ".
2- المجرحون لأبنائهم:
الإمام أبو داود السجستاني "صاحب السنن" قال: "ابني عبد الله كذاب". ونحوه قول الذهبي في ولده أبو هريرة: "إنه حفظ القرآن، ثم تشاغل عنه حتى نسيه".
3- المجرحون لإخوانهم:
زيد بن أبي أنيسة قال: "لا تأخذوا عن أخي يحيى المذكور بالكذب".
4- المجرحون لأصهارهم وأختانهم:
شعبة بن الحجاج قال: "لو حابيت أحدا لحابيت هشام بن حسان كان خَتَنِي، ولم يكن يحفظ".
5- المجرحون لبعض أقاربهم:
أبو عروبة الحراني: "قال الذهبي في ترجمة الحسين بن أبي السري العسقلاني: قال أبو عروبة: هو خال أمي، وهو كذاب".
6- ومن الذين لم يحابوا مشايخهم:
روى الإمام ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن مهدي قال: "اختلفوا يوماً عند شعبة، فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكماً فقال: قد رضيت بالأحول، يعني: يحيى بن سعيد القطان، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه، فقضى على شعبة وهو شيخه ومنه تعلم وبه تخرج، فقال له شعبة: ومن يطيق نقدك - أو من له مثل نقدك - يا أحول؟!
قال ابن أبي حاتم: هذه غاية المنزلة ليحيى بن سعيد القطان إذ اختاره شيخه شعبة من بين أهل العلم، ثم بلغ من عدالته بنفسه وصلابته في دينه أن قضى على شعبة شيخه ومعلمه".
وبلغ من نزاهة أئمة الحديث أنهم كانوا لا يقبلون شفاعة إخوانهم للسكوت عمن يرون جرحه وكيف يرتضون تلك الواسطة وهم الذين طعنوا في أبنائهم وآبائهم وإخوانهم لما رأوا منهم ما يستوجب القدح.
أما عن موقف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام من ملوكهم وأمرائهم فالنماذج المشرفة الدالة على ذلك كثيرة، فمنها -على سبيل المثال لا الحصر-: موقف أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- من مروان والي المدينة، وموقـف ابن عمر –رضي الله عنه- من الحجاج، وموقف الإمام الزهري مع هشـام بن عبد الملك الأموي وغيرهم الكثير والكثير.
الشبهة الثامنة:
وهذه الشبهة هي اختلاف المحدثين في التوثيق والتضعيف.
لقد اعتبر الطاعنون اختلاف علماء الحديث في توثيق الرجال وتضعيفهم مطعناً في منهجهم، ويلزم من ذلك أن يوثقوا من لا يستحق التوثيق، ويضعفوا من لا يستحق التضعيف، وينتج عنه تصحيح أحاديث لم تبلغ درجة الصحة، ولذلك حكموا على كثير من الأحاديث بالصحة وهي ليست كذلك.
الرد على هذه الشبهة:
ما وضعه علماء الحديث من قواعد وأصول ثابتة لتوثيق الرواة وتضعيفهم ينفي ما قالوا، ولم ينطلقوا - رحمهم الله - في تعديل الرواة وتجريحهم من هوى، وإنما كانوا يفعلون ذلك حسبة لله وتديناً، ولذلك كثر قولهم: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
ولقد قام علم عظيم وضعت له القواعد وأسست له الأسس، وجعل مقياساً دقيقاً ضبطت به أحوال الرواة من حيث التوثيق والتضعيف، ذلك "علم الجرح والتعديل" الذي لا نظير له عند أمة من الأمم.
والذي يطالع كتب علوم الحديث يقف مبهوراً أمام هذا العلم فائقِ الدقة، البالغ الإحكام، الذي لا يمكن أن يكون وضع صدفة أو جاء عفواً، وإنما بذلت فيه جهود، وتعبت فيه أجسام، وسهرت فيه أعين حتى بلغ إلى قمة الحسن ومنتهى الجودة.
ونتناول من هذا العلم ثلاثة أسئلة يتضح من خلالها فساد هذا الزعم وبطلانه.
أولا: من هو الراوي الذي يقبل حديثه؟.
ثانيا: كيف يوثق؟.
ثالثا: إذا تعارض فيه توثيق وتضعيف، ما العمل إذاً؟ وما الذي أدى إلى ذلك؟.
والجواب على هذه الأسئلة:
أولا: لقد نص علماء الحديث على صفات معينة متى توفرت تلك الصفات في شخص معين قبلت روايته واحتج بحديثه.
قال ابن الصلاح - رحمه الله -: "وأجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلاً ضابطاً لما يرويه. وتفصيله أن يكون مسلماً بالغاً عاقلاً، سالماً من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظاً غير مغفل، حافظاً إن حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالماً بما يحيل المعاني".
فهذا هو الثقة الذي تقبل روايته وهو الذي جمع بين شرطي العدالة والضبط.
ثانياً: يوثق الراوي إذا ثبتت عدالته بالاستفاضة، أو باشتهاره بين أهل العلم بالثناء والخير، أو بتعديل عالم أو أكثر، وثبت ضبطه بموافقة روايته للثقات المتقنين في الغالب.
ويقبل تعديل الراوي ولو لم يذكر سببه؛ وذلك لكثرة أسباب التعديل ومشقة ذكرها.
وأما جرحه فلا يقبل إلا إذا بين سببه؛ لأن الجرح يحصل بأمر واحد، ولا مشقة في ذكره، إضافة إلى اختلاف الناس في أسبابه.
ثالثا: إذا تعارض جرح وتعديل في راو معين قدم الجرح إذا كان مفسراً ولو زاد عدد المعدلين، وعلى ذلك جمهور العلماء؛ لأن مع الجارح زيادة علم خفيت عن المعدل، فالمعدل يخبر عن ظاهر حال الراوي، والمجروح يخبر عن أمر باطن، وهذا شرط مهم؛ فإنهم لم يقبلوا الجرح إذا تعارض مع التعديل إلا إذا كان مفسراً، وهذا ما استقر عليه الاصطلاح.
يقول الدكتور نور الدين عتر: "لكن هذه القاعدة ليست على إطلاقها في تقديم الجرح، فقد وجدناهم يقدمون التعديل على الجرح في مواطن كثيرة، ويمكننا أن نقول: إن القاعدة مقيدة بالشروط الآتية:
1ـ أن يكون الجرح مفسراً، مستوفياً لسائر الشروط.
2ـ ألا يكون الجارح متعصباً على المجروح أو متعنتاً في جرحه.
3ـ أن يبين المعدل أن الجرح مدفوع عن الراوي، ويثبت ذلك بالدليل الصحيح.
وهذا يدل على أن اختلاف ملحظ النقاد يؤدي إلى اختلافهم في الجرح والتعديل، لذلك قال الذهبي وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال: "لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف ولا على تضعيف ثقة". وهذا؛ لأن الثقة إذا ضعف يكون ذلك بالنظر لسبب غير قادح، والضعيف إذا وثق يكون توثيقه من الأخذ بمجرد الظاهر.
وقال الحافظ ابن حجر: "والجرح مقدم على التعديل، وأطلق ذلك جماعة ولكن محله إن صدر مبيناً من عارف بأسبابه؛ لأنه إن كان غير مفسر لم يقدم فيمن ثبتت عدالته، وإن صدر من غير عارف بالأسباب لم يعتبر به أيضاً، فإن خلا المجروح عن تعديل قُبل الجرح فيه مجملاً غير مبين السبب إذا صدر من عارف على المختار؛ لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجروح أولى من إهماله".
كما أنه يجب أن يراعى عند الاختلاف حال المعدل والمجرح؛ لأن ذلك من القرائن التي يرجح بها عند الاختلاف في التوثيق والتضعيف.
قال الإمام الذهبي مبينا أقسام المتكلمين في الرجال من حيث التعنت والتوسط والاعتدال في الجرح والتعديل:
1- قسم منهم متعنت في الجرح، متثبت في التعديل، يغمز الراوي بالغلطتين والثلاث، ويلين بذلك حديثه، وهذا إذا وثق شخصاً فعض على قوله بنواجذك، وتمسك بتوثيقه، وإذا ضعف رجلاً فانظر هل وافقه غيره على تضعيفه، فإن وافقه، ولم يوثق ذاك أحد من الحذاق، فهو ضعيف، وإن وثقه أحد فهذا الذي قالوا فيه: لا يقبل تجريحه إلا مفسراً، يعني لا يكفي أن يقول فيه ابن معين مثلاً: هو ضعيف، ولم يوضح سبب ضعفه، وغيره قد وثقه، فمثل هذا يتوقف في تصحيح حديثه، وهو إلى الحسن أقرب. وابن معين وأبو حاتم والجوزجاني متعنتون.
2ـ وقسم في مقابلة هؤلاء، كأبي عيسى الترمذي، وأبي عبد الله الحاكم، وأبي بكر البيهقي: متساهلون.
3ـ وقسم كالبخاري، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، وابن عدي: معتدلون منصفون".
وبعد، فعلماء الحديث لم ينطلقوا في توثيقهم وتجريحهم، وتصحيحهم وتضعيفهم من خواء وتخبط، وإنما انطلقوا من قواعد متينة وأرض صلبة، في أحكامهم؛ ولذلك برزت هذه الأحكام إلى الوجود في منتهى الدقة، متفقة فيما بينها، متحدة لا شذوذ فيها، منسجمة لا تباين يعتريها، ويعجز كل دعي أن ينقد ما أصلوه بنقد علمي لا مطعن فيه، وبحكم لا قادح فيه.
وهذه شهادة أحد المستشرقين أنفسهم ينقلها الدكتور "نور الدين عتر" في هذه المسألة وهو (ليوبولد فايس) قال: "إننا نتخطى نطاق هذا الكتاب إذا نحن أسهبنا في الكلام على وجه التفصيل في الأسلوب الدقيق الذي كان المحدثون الأوائل يستعملونه للتثبت من صحة كل حديث، ويكفي من أجل ما نحن هنا بصدده أن نقول: إنه نشأ من ذلك علم تام الفروع، غايته الوحيدة البحث في معاني أحاديث الرسول، وشكلها، وطريقة روايتها.
ولقد استطاع هذا العلم في الناحية التاريخية أن يوجد سلسلة متماسكة لتراجم مفصلة لجميع الأشخاص الذين ذكروا عن أنهم رواة أو محدثون، إن تراجم هؤلاء الرجال والنساء قد خضعت لبحث دقيق من كل ناحية، ولم يعد منهم في الثقات إلا أولئك الذين كانت حياتهم وطريقة روايتهم للحديث تتفق تماماً مع القواعد التي وضعها المحدثون، تلك القواعد التي تعتبر على أشد ما يمكن أن يكون من الدقة. فإذا اعترض أحد اليوم من أجل ذلك على صحة حديث بعينه أو على الحديث جملة، فإن عليه هو وحده أن يثبت ذلك".
الشبهة التاسعة:
ومن شبهاتهم أيضاً: أن نقد المحدثين اقتصر على نقد الإسناد ولم يشمل نقد المتون.
يقول غاستون ويت: "وقد درس رجال الحديث السنة بإتقان إلا أن تلك الدراسة كانت موجهة إلى السند ومعرفة الرجال والتقائهم وسماع بعضهم من بعض" ثم قال: "لقد نقل لنا الرواة حديث الرسول مشافهة ثم جَمَعَهُ الحُفَّاظ ودوَّنُوه إلا أن هؤلاء لم ينقدوا المتن، لذلك لسنا متأكدين من أن الحديث قد وصلنا كما هو عن رسول الله من غير أن يضيف إليه الرواة شيئاً عن حسن نية في أثناء روايتهم الحديث".
الرد على هذه الشبهة:
لقد اهتم علماء الحديث اهتماماً بالغاً بدراسة متن الحديث واستوفوا تلك الدراسة وبذلوا قصارى جهدهم في العناية به بحيث لا يوجد مزيد على ما قدموه.
ولقد كان الهدف الذي يسعون إليه من دراسة الإسناد ونقده وهو تمييز صحيح الحديث من ضعيفة وحماية السنة من العبث والكيد كان ذلك مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بنقد المتن، وقد بينا أن توثيق الراوي لا يتم إلا بثبوت عدالته وضبطه، وهذا الأخير إنما يعرف بمقارنة مرويات الراوي مع مرويات الثقات الآخرين.
ومن الثابت الذي لا جدال فيه عند المحدثين أن صحة إسناد الحديث لا تعني بالضرورة صحة الحديث؛ لأن من شروط الصحيح ألا يكون شاذاً ولا معللاً، والشذوذ والعلة يكونان في السند كما يكونان في المتن، فقد يصح إسناد حديث ما ويكون في متنه علة قادحة تقدح في صحته وهكذا الشذوذ، ولذا لم تكن دراستهم قاصرة على الأسانيد وإنما بحثوا في علل المتون وشذوذها وجمعت أبحاثهم هذه في علل المتون والأسانيد في مصنفاتهم من كتب العلل وهي كثيرة.
ومن أجل ذلك نشأت علوم لا تكتفي بدراسة الإسناد بل تعني بدراسة الإسناد والمتن جميعاً، فمن ذلك: الحديث المقلوب، والمضطرب، والمدرج، والمعلل، والمصحف، والموضوع، وزيادة الثقة.
كما أنشئت علوم تتعلق بدراسة المتن خاصة، من ذلك: غريب الحديث، أسباب وروده، ناسخه ومنسوخة، مشكله، ومحكمه.
وفي هذا بذل المحدثون جهدا لا نظير له ولا مثيل، ومن جهودهم في دراسة المتن ما وضعوه من علامات وضوابط يعرف بها وضع الحديث من غير رجوع إلى سنده، من ذلك:
1- ركاكة اللفظ في المروي: فيدرك من له إلمام باللغة ومعرفتها أن ذلك لا يمكن أن يكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صرح الراوي بأنه لفظه، وإلا فمدار الركة على المعنى وإن لم ينضم إليها ركاكة اللفظ.
2- مخالفة الحديث لنص القرآن أو السنة المتواترة: فما يخالف القرآن كحديث: "مقدار الدنيا وإنها... آلاف سنة" فهو مخالف لقوله - تعالى -: (يَسأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرسَاهَا قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَت فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ لَا تَأتِيكُم إِلَّا بَغتَةً يَسأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنهَا قُل إِنَّمَا عِلمُهَا عِندَ اللَّهِ) (34).
وما يخالف السنة كأحاديث مدح من اسمه محمد أو أحمد، وأن كل من يسمى بهذه الأسماء لا يدخل النار؛ والنار لا يجار منها بالأسماء والألقاب وإنما بالإيمان والعمل الصالح.
3- ما اشتمل على مجازفات وإفراط في الثواب العظيم على الأمر الصغير، أو وعيد عظيم على فعل يسير: كحديث: من قال: لا إله إلا الله، خلق الله من تلك الكلمة طائرا له".
يقول الدكتور "صبحي الصالح" صاحب "كتاب علوم الحديث ومصطلحه" مؤكداً عدم تفرقة المحدثين بين السند والمتن في حكمهم على الحديث: "على أننا لا نرتكب الحماقة التي لا يزال المستشرقون، وتلامذتهم المخدوعون بعلمهم" الغزير" يرتكبونها كلما عرضوا للحديث النبوي، إذ يفصلون بين السند والمتن مثلما يفصل بين خصمين لا يلتقيان أو ضرتين لا تجتمعان، فمقاييس المحدثين في السند لا تفصل عن مقاييسهم في المتن إلا على سبيل التوضيح والتبويب والتقسيم، وإلا فالغالب على السند الصحيح أن ينتهي بالمتن الصحيح، والغالب على المتن المعقول المنطقي الذي لا يخالف الحس أن يرد عن طريق صحيح".
فعلماء الحديث - رحمهم الله - درسوا متن الحديث دراسة وافية يعرف قدرها من نظر إلى مؤلفات القوم وما تركوه من ميراث عظيم سارت على ضوئه الأجيال، واعترف بذلك المنصفون، فلا عبرة بما قاله "غاستون ويت"، ولا بما قاله كل حاقد يريد شراً بديننا القويم، فنحن المسلمون -بحمد الله- نثق في علمائنا الأجلاء ونقدر لهم جهودهم، ونشكر لهم ما بذلوه من جهود في خدمة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونشهد لهم بذلك وبسلامة منهجهم واستقامته ولا نلتفت إلى طعن الطاعن أو قول مبغض فيهم أبداً بل نكشف قوله ونرد كيده ونمحو أثره وصدق الله إذ يقول: (بَل نَقذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ).
الشبهة العاشرة:
يقول المستشرق " ماكدونالد " وغيره من المستشرقين: "إن الأحاديث لا تنبني عليها الحقائق التاريخية، وإنها سجل مضطرب كثير الأغلاط التاريخية مما يدل على الوضع في الحديث".
الرد على هذه الشبهة:
الذي يطالع دواوين السنة وخاصة "الصحيحين" يجد حشدا ضخماً من الأحاديث النبوية التي تشير إلى وقائع وأحداث تاريخية ماضية؛ كقصص الأنبياء والأمم السابقة وبدء الخلق، كما أن هنالك كثيراً من الأحاديث التي تدل على أمور تحدث في المستقبل؛ كأحاديث الفتن وغيرها، وكثير من هذه الأحاديث صحيح وثابت تلقته الأمة بالقبول وصدقت بما جاء فيه وآمنت بكل ذلك؛ لأن الذي نطق بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال الله - عز وجل - فيه: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى) (35).
وقد اعتمد علماء الأمة على تلك الأحاديث في بيان الحقائق التاريخية وإثباتها بل تعتبر عندهم من أقوى الأدلة بعد القرآن الكريم، ولذلك ملئت بها كتب السير والتاريخ وحكموها في كثير من أخبار أهل الكتاب، فقبلوا منها ما أيدته الأحاديث النبوية وردوا منها ما خالفته، وتوقفوا فيما لم يرد شاهد من القرآن أو السنة عليه، قال "الحافظ ابن حجر" في "فتح الباري" في بيان معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم)) قال: "أي إذا كان ما يخبرونكم به محتملاً لئلا يكون في نفس الأمر صدقاً فتكذبوه أو كذباً فتصدقوه فتقعوا في الحرج، ولم يرد النهي عن تكذيبهم فيما ورد شرعنا بخلافه ولا عن تصديقهم فيما ورد شرعنا بوفاقه".
وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستندون في ذكر الحقائق التاريخية وتصويبها على ما جاء في كتاب الله وما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري بسنده إلى سعيد بن جبير قال: "قُلتُ لِابنِ عَبَّاسٍ –رضي الله عنهما-: إِنَّ نَوفًا البَكَالِيَّ يَزعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيسَ بِمُوسَى بَنِي إِسرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ، فَقَال: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ! حَدَّثَنَا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ –رضي الله عنه-: عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: ((قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعلَمُ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيهِ إِذ لَم يَرُدَّ العِلمَ إِلَيهِ، فَأَوحَى اللَّهُ إِلَيهِ: أَنَّ عَبدًا مِن عِبَادِي بِمَجمَعِ البَحرَينِ هُوَ أَعلَمُ مِنكَ... )).
فقد استدل ابن عباس - رضي الله عنهما - على صدق الخبر وحقيقته بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذب بذلك نَوفًا، وتلك حقيقة تاريخية دل عليها الحديث.
بل أكثر من ذلك فقد كانوا يلجئون إلى الأحاديث في فض النزاع إذا اختلفوا في حقيقة تاريخية كما يلجئون إليها في الأحكام.
روى البخاري بسنده إلى ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أَنَّهُ تَمَارَى هُوَ وَالحُرُّ بنُ قَيسِ بنِ حِصنٍ الفَزَارِيُّ فِي صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما-: هُوَ خَضِرٌ فَمَرَّ بِهِمَا أُبَيُّ بنُ كَعبٍ –رضي الله عنه- فَدَعَاهُ ابنُ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ؛ هَل سَمِعتَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَذكُرُ شَأنَهُ؟ قَالَ: نَعَم سَمِعتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((بَينَمَا مُوسَى فِي مَلَإٍ مِن بَنِي إِسرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ... )).
إذن نعلم يقيناً بعد دحض هذه الشبهات التي أوردناها للمستشرقين ومن شايعهم أنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في جميع مطاعنهم التي وجهوها للسنة النبوية والتي وجهوها أيضاً للمنهج النقدي للمحدثين، وظهر عوار هؤلاء المستشرقين واختلال منهجهم العلمي في البحث.
خاتمة البحث:
نأتي إلى خاتمة هذا البحث والذي أردت من خلاله عرض شبهات المستشرقين ومن شياعهم ومن ثم دحضها وتفنيدها والرد عليها، وكنت قد تحدثت في الباب الأول من هذا البحث عن تعريف السنة في اللغة ثم تعريف السنة في الاصطلاح عند الفقهاء ثم تعريف السنة عند الأصوليين ثم تعريف السنة عند المحدثين، وتحدثت في الباب الثاني عن مفهوم الاستشراق وأهم أهدافهم، ثم بعد ذلك تحدثت في الباب الثالث عن شبهات هؤلاء المستشرقين ومن سار في ركابهم وهذا هو صميم موضوعنا، وأردفت كل شبهة من هذه الشبهات بالرد عليها ودحضها، وقد تبين لي من خلال بحثي هذا جملة من الحقائق والنتائج حول السنة النبوية وكذلك حول هؤلاء المستشرقين ومن سار على نهجهم.
أولا: حقائق ونتائج حول السنة النبوية:
1. أن الأمة الإسلامية قد عُنِيَت بصيانة الحديث النبوي منذ أول عهدها بالرواية، وأن العلماء لم يدخروا جهداً في سبيل هذا الأمر.
2. أن الهدف الجليل الذي نشأ من أجله علم مصطلح الحديث، أو علوم الحديث، وهو صيانة الحديث النبوي الذي هو أعظم المصادر الإسلامية بعد كتاب الله - تعالى -.
3. أن قواعد علوم الحديث قواعد نقد شاملة تدرس جوانب الحديث كلها دراسة تامة دقيقة.
4. أن جهود المحدثين في حقل تطبيق المنهج النقدي قد بلغت الغاية في الوصول إلى هدف صيانة الحديث النبوي وهذه تصانيفهم الكثيرة في أنواع الحديث ما اختص منها بالصحيح، أو الضعيف، أو اختص بالموضوع، أو بنوع مستقل من علوم الحديث الأخرى كالمرسل والمدرج، وغيرها، وهذه التصانيف برهان عملي على مدى ما بلغوه من العناية في تطبيق هذا المنهج حتى أدّوْا إلينا تراث النبوة صافياً نقيا ً.
ثانياً: حقائق ونتائج حول المستشرقين ومنهجهم:
1. اعتمادهم على نصوص مفردة متقطعة عما ورد في موضوعها مما يوضح المراد منها ويبينه وذلك كثير في أبحاثهم ،ومنه استدلال المستشرق المجري "تسيهر" على أن تصنيف الحديث تأخر إلى القرن الثالث بما ورد عن الإمام أحمد - رحمه الله - أنه قال في سعيد بن أبي عَرُوبَة (156هـ): "هو أول من صنف الأبواب بالبصرة... لم يكن له كتاب إنما كان يحفظ" فاستدل بقوله: "لم يكن له كتاب" على أنه لم يؤلف كتاباً" مع أن المحدثين يستعملون هذا في الدلالة على أن المحدث حافظ متين الحفظ لا يعتمد على الكتاب في روايته للحديث، وهذا لا يدل على أن المحدث لم يصنف كتاباً من محفوظاته، وهو يصرح في أول كلمته بأنه صنف، والشواهد على ذلك كثيرة.
2. أنهم يعولون على مصادر ليست في مستوى البحث العلمي، مثل كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني، وهو ليس كتاباً علمياً، ولا كتاب حديث، إنما يعتمد عليه في الأدب والفكاهات.
3. وضع النصوص في غير موضعها، وتحميلها مالا تطيقه ألفاظها ولا يستمد من معانيها.
4. أنهم يوردون مقدمات جزئية ضعيفة ثم يبنون عليها نتائج ضخمة فضفاضة لا تناسب تلك المقدمات ولا تنتج منها.
5. إغفال الحقائق التي تخالف استنتاجاتهم وتبطلها.
وأخيراً أحمد الله العلي القدير جل في علاه، وأثني عليه بما هو أهله، وأصلي على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين بالحق بشيراً ونذيرا،ً وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــ
فهرس الآيات:
(7) [المائدة:67].
(
[الأنعام:38].
(9) [النحل:89].
(10) [الأنعام:38].
(11) [النحل:89]
(12) [الأنعام:38].
(13) [الحشر:7].
(14) [يونس:15].
(15) [الحشر:7].
(16) [الحشر:7].
(17) [القصص:50].
(26) [الأحزاب:21].
(34) [ الأعراف:187].
(35) [النجم:4].
فهرس الأحاديث:
(1) الحديث صحيح رواه مسلم في كتاب الزكاة و سنن الدارمي.
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي باب الرجوع من الأحزاب (15 :294) برقم(4119).
(18) أخرجه مسلم في كتاب الزهد (18 :129).
(19) أخرجه البخاري في كتاب العلم باب كتابة العلم (1: 309).
(20) رواه البخاري في كتاب العلم (1 : 313).
(21) رواه أبو داود باب كتابة العلم (10: 79).
(23) رواه البخاري في كتاب العلم (1 :315).
(24) أخرجه البخاري كتاب الاعتصام باب الإقتداء بأفعال النبي - عليه السلام - برقم (7298).
(25) رواه أبودود باب الصلاة في النعل (2: 353) برقم (636).
(27) رواه النسائي في كتاب مناسك الحج (5: 270).
(28) رواه البخاري في كتاب الأذان (3 : 315).
(29) رواه البخاري في كتاب الاعتصام (28 : 12).
(30) أخرجه أبو داود في كتاب العلم (10 : 79).
(31) رواه البخاري في كتاب العلم باب من كذب على النبي - عليه السلام - برقم (106).
فهرس المراجع:
(3) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا لمحمود محمد شاكر (57).
(4) رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (86).
(5) مذاهب فكرية معاصرة لمحمد قطب (597).
(6) أضواء على السنة المحمدية.
(22) تدوين السنة د. محمد مطر الزهراني (76).
(32) السنة ومكانتها من التشريع الإسلامي (61).
(33) السنة ومكانتها من التشريع الإسلامي (66)