خصائص توحيد الربوبية
زياد أبو رجائي
1- مركوز في الفطرة ، ولذلك أقر به المشركون الأوائل وجميع أل الملل من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس. فهم يشهدون أن الله هو الخالق والرازق ، المالك والمدبر المحيي والمميت ، كما أخبر الله عنهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) { العنكبوت:61 } وقال
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) { لقمان:25 }.
ولم ينكر هذا التوحيد إلا الدهرية فيمن سلف والشيوعية الملحدة فيمن خلف.
2- لا يدخل الانسان في دين الاسلام
واقرار مشركي العرب بتوحيد الربوبية وشهادتهم تلك لم تدخلهم الاسلام ، فلا يكفي توحيد الربوبية للبراءة من الشرك فإن معظم الطوائف تقر به ولم يعرف عن أحد منهم القول بأن للعالم صانعين متماثلين في الصفات والأفعال.
3-لا يعم دم العبد وماله
وهذا القسم من التوحيد لم يعارض المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم بل كانوا مقرين به إجمالا ومع ذلك لم تنفعهم هذه الشهادة في شيء لأنهم لم يحققوا توحيد الألوهية ، حيث أشركوا مع الله في عبادته بصرفها لغير الله (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) { الزمر:3} فقد أنكروا أن تكون العبادة كلها لله وحده لا شريك له كما في قوله تعالى: (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) {ص:5}
ولذلك قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم جتى يقروا بتوحيد الألوهية فقال صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا لا إله إلا الله وأني رسول الله ؛ فإن قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا لحقها وحسابهم على الله" {حديث متواتر}
4- لا ينجي في الآخرة من الخلود في النار
هذا النوع من أنواع التوحيد وهو توحيد الربوبية لا يكفي وحده للدخول في الإسلام؛ فقد كان المشركون مقرين به فلم ينفعهم ذلك، ولم يدخلهم في الإسلام؛ لأنهم مشركون في توحيد الألوهية، لصرفهم بعض أنواع العبادة كالدعاء، والذبح، والاستغاثة، لمعبوداتهم كالأصنام، والملائكة، وغيرهم(1).
قال علامة اليمن الإمام المجتهد محمد بن إسماعيل الصنعاني رحمه الله(2): "الأصل الرابع: أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى" يؤفكون 87 {الزخرف: 87}، وأنه خلق السموات والأرض: ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم 9 {الزخرف: 9}، وأنه الرزاق الذي يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وأنه الذي يملك السمع، والأبصار، والأفئدة: قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون(3) 31 {يونس: 31}. قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون 84 سيقولون لله قل أفلا تذكرون(4) 85 قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم 86 سيقولون لله قل أفلا تتقون 87 قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون 88 سيقولون لله قل فأنى" تسحرون(5) 89 {المؤمنون: 84 - 89}، وهذا فرعون مع غلوه في كفره، ودعواه أقبح دعوى، ونطقه بالكلمة الشنعاء(11)، يقول الله في حقه، حاكياً عن موسى عليه السلام: قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر(6) 102 {الإسراء: 102}، وقال إبليس: إني أخاف الله رب العالمين (7) {الحشر: 16}، وقال: رب بما أغويتني 39 {الحجر: 39}، وقال: رب فأنظرني 36 {الحجر: 36}، وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض، وربهن ورب ما فيهما، ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم: أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون (
{النحل: 17}، وبقولهم: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو \جتمعوا له 73 {الحج: 73} والمشركون مقرون بذلك لاينكرونه" انتهى كلامه رحمه الله.
5- استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الألوهية:
توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية(9)، فمن أقر بأن الله خالقه من العدم، ومالكه، ورازقه والمنعم عليه بأنواع النعم، التي لا يستطيع العبد إحصاءها، والتي هي مستمرة في جميع الأوقات والأحوال منذ أن يولد إلى أن يموت بل وفيما قبل ذلك، وأنه تعالى المصرف لجميع أموره المدبر لها يلزمه أن يشكر الله تعالى على ذلك بأن يعبده سبحانه وتعالى، وأن يطيع أوامره، ويجتنب نواهيه، ويحرم عليه أن يشرك معه في عبادته أحداً من خلقه(10).
ولذلك عاب الله تعالى على المشركين الذين يقرون بتوحيد الربوبية ثم يشركون في عبادة الله، بصرف بعض أنواع العبادة كالدعاء والذبح وغيرهما لمعبوداتهم من الأصنام وغيرها، كما في الآيات السابقة التي نقلها الإمام الصنعاني، كقوله سبحانه: أفلا تذكرون، وقوله تعالى: أفلا تتقون، وقوله جل وعلا: فأنى" تسحرون.
وقال الله تعالى: يا أيها الناس \عبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون 21 الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون 22 {البقرة: 21، 22}.
فأمر الله تعالى في صدر الآية الأولى جميع الناس بعبادته وهذا هو أول أمر في القرآن(11) ثم استدل تعالى على وجوب عبادته وحده بأنه ربهم الذي رباهم بأصناف النعم الظاهرة والباطنة، فأوجدهم من العدم، وجعل لهم الأرض فراشاً، يستقرون عليها، وينتفعون فيها بالأبنية، والزراعة، والتكسب، وجعل السماء بناء وهو السقف وأودع فيها من المنافع ماهو من حاجاتهم، كالشمس، والقمر، والنجوم، وأنزل من السماء وهي كل ما علا فوقهم ماء، فأنبت به الثمرات من الحبوب، والفواكه، والتمور، وغيرها، رزقاً لهم.
ثم نهى سبحانه وتعالى في ختام الآية الثانية عن جعل الأنداد لله، وهم الشبهاء، والنظراء، والشركاء، الذين يعبدون مع الله بصرف شيء من العبادة لهم مع أنهم لم يخلقوا العباد، ولم يرزقوهم، بل هم مخلوقون، مرزوقون، مدبرون، ومن حصل منه من الأولياء والصالحين الأحياء نفع للعباد فإنما هو بتسخير الله، وتدبيره، وإعانته لهم على ذلك، بل إن الله هو خالقهم وخالق أفعالهم، فالله تعالى هو وحده المنعم أولاً وآخراً، وهؤلاء إنما جعلهم الله سبباً في وصول هذا الخير إلى العباد، فكيف يعبدونهم مع الله وهم يعلمون أن الله لا شريك له في الربوبية ولا في الألوهية؟!
فالعبادة هي خالص حق الله تعالى، لا يجوز صرف شيء منها لغيره، كائناً ما كان، ومن صرف شيئاً منها لغيره فقد ظلم وأساء في حق الله تعالى، كما قال سبحانه حكاية عن لقمان: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم {لقمان: 13} .
وقد روى الحارث الأشعري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: "إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بهن ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن..." فذكر الحديث بطوله، وفيه: "أولهن أي أول هذه الكلمات أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بذهب أو ورق، ثم قال له: هذه داري، وهذا عملي، فاعمل، وأدِّ إليّ، فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده، فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم، فلا تشركوا به شيئاً..."(12) الحديث.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" رواه البخاري، ومسلم(13).
وهذا التوحيد قد أقر به أكثر الخلق في القديم والحديث، ولم ينكره إلا القليل، ومنهم فرعون وملؤه الذين أنكروا وجود الله بالكلية، ولذلك جحدوا نبوة موسى عليه السلام وما جاء به من الآيات، وهذا في الظاهر، أما في قرارة أنفسهم فهم مقرون بذلك كله، كما قال الله تعالى عنهم: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا 14 {النمل: 14}.
وممن أنكره أيضاً الشيوعيون في العصر الحاضر الذين يقولون "لا إله، والحياة مادة"، وهم إنما يقولون هذا في الظاهر، وإلا فإنهم مقرون بقلوبهم بوجود الله تعالى وربوبيته، ولا أدل على ذلك من أنه لما سقطت وأنهارت حكومات روسيا وغيرها من دول أوربا الشرقية التي كانت تحكم بالمذهب الشيوعي رجع أكثر من كان ينتسب إلى الشيوعية ظاهراً إلى أديانهم القديمة كالنصرانية، واليهودية، وغيرهما.
1- ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (3-10296)، ورسالة "هدية طيبة" (مطبوعة ضمن مجموعة التوحيد{1-139} )، تيسير العزيز الحميد، ص: (17،26).
2- ينظر كتابه: تطهير الاعتقاد، ص: (1715).
3- أي: أفلا تتقون الله فتخلصون له العبادة، ينظر: تفسير السعدي.
4- أي: ألا ترجعون إلى ما ذكركم الله به مما فطرتم عليه. المرجع السابق.
5- أي: فأين تذهب عقولكم حيث عبدتم المخلوقات الضعيفة، ولم تخلصوا العبادة للخالق المالك المدبر، فالعقول التي دلتكم إلى هذا لا تكون إلا مسحورة، سحرها الشيطان بتزيين الباطل وقلب الحقائق، المرجع السابق.
6- وهي إنكاره لوجود الله، ودعواه الربوبية والألوهية لنفسه، بقوله: ما علمت لكم من إله غيري 38 {القصص: 38}، وقوله: أنا ربكم الأعلى" 24 {النازعات: 24}.
7- فأخبر أن فرعون يعلم في قرارة نفسه أن الله هو الذي أنزل الآيات حججاً وبراهين على صدق موسى عليه السلام، ويترتب عليه أنه يعلم بوجود الله تعالى، وهذا كله من توحيد الربوبية، ولكنه إنما أنكر ذلك في الظاهر، ولهذا قال الله عنه وعن ملئه: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا 14 {النمل: 14}.
8- شرح الطحاوية، ص: (46)، الوابل الصيب، ص: (46)، إغاثة اللهفان، الباب السادس (1-30)، تيسير العزيز الحميد، ص: (17) معارج القبول (1-315)، القول السديد، ص:(19).
9- قواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام (2-134،135)، مدارج السالكين (1-88)، الفوائد، ص: (128)، لوامع الأنوار (1-353).
10- تيسير العزيز الحميد، ص:(21).
11- ينظر: تفسير ابن أبي حاتم، وتفسير ابن كثير، وتفسير الشوكاني، وتفسير السعدي للآيتين (21و22) من سورة البقرة.
12- رواه الإمام أحمد (4-130،202)، والطيالسي (1161،1162)، والترمذي في الأمثال (2863، 2864)، وقال: "حسن صحيح غريب"، وأبو يعلى (1571)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1-118)، وصححه، والآجري في الشريعة، ص
عن أبان بن يزيد، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام، أن أبا سلام حدثه، أن الحارث الأشعري حدثه... فذكره. وإسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، وقد صرح يحيى بالتحديث في رواية أبي يعلى وابن حبان والحاكم والآجري، وقد حسن ابن كثير إسناد الإمام أحمد.
ورواه ابن خزيمة في صحيحه (484،930)، والطبراني (3430)، والبيهقي (2-282)، من طرق عن معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام به. وإسناد ابن خزيمة صحيح.
13- صحيح البخاري (6861)، وصحيح مسلم (86)