أهمية تعلم العقيدة الصحيحة
الشيخ هشام العارف
هناك ارتباط قوي بين طلب العلم الشرعي ، والاعتقاد الصحيح . الله عز وجل حث على طلب العلم من أجل أن يكون لدى المسلم حصانة قوية وكافية للمحافظة على سلامة الفطرة التي خلقت على التوحيد "الاسلام" . لذلك كان أول الذي أوحاه الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : اقرأ. فنبه بها على أعلى أسباب القرب إليه وهو العلم ، وحض في خاتمتها على نتيجة العلم وهو العلم المقرّب إليه جل وعلا ، فقيل له ( اسجد واقترب) وحاصله إعلم واعمل . قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله : "إن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما أنزل عليه بيان أصول الدين ، وهي الأدلة العقلية الدالة على ثبوت الصانع وتوحيده ، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى المعاد إمكاناً ووقوعاً" .
سبق سورة اقرأ سورة التين في ترتيب المصحف وفيها قول الله تعالى : (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) وفيها ما أنعم الله تعالى على الإنسان وخصه من انتصاب القامة ، وحسن الصورة ، وبما أعطي عقلاً وروحاً ومكن من أسباب المعرفة الظاهرة كالسمع والبصر والذوق واللمس والشم ، والباطنة كالإحساس والشعور والعاطفة ، فجاءت سورة العلق لترشده إلى استعمال هذه الأسباب وبما أعطي من النعم في طلب العلم لمعرفة الخالق الذي يربيه ويرعاه ، ومن ثم عبادته العبادة الحقة الصحيحة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم وأن يسلك في الحياة الدنيا مسلك الذين أنعم الله عليهم ، فالإنسان مكرم من الله تعالى وختم الله تعالى سورة التين بقوله (أليس الله بأحكم الحاكمين ) وهذا استفهام تقريري جوابه أن الله تعالى هو الذي يعلم العباد بحكمته لذا طالبهم في سورة العلق بالقراءة والتعلم ، ثم جاءت سورة القدر بعدها لتبين عظمة ما في كتاب الله تعالى المقروء والمتعبد بتلاوته الذي أنزله في ليلة مباركة وأنه مصدر مهم في التعلم ومعرفة الله تعالى فقال (إنا أنزلناه في ليلة القدر) ، وإذا قرأ المسلم كتاب الله تعالى كان قريباً من الله تعالى فلما ختم الله تعالى سورة العلق بالأمر بالسجود والاقتراب من الله ، كان المقصود من الاقتراب أن يتعلم المسلم دينه ويتقرب إلى الله بالطاعة والذل والخضوع والدعاء وأحسن صوره الصلاة ، ولا تكون صلاة إلا بقرآن .
وقال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ : "وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله ، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر".
وينبغي أن يعلم أن تحقيق التوحيد يستحيل أن يتم كله أو شيء منه إلا بالعلم . لأن العبادة ، أية عبادة لا تصح إلا باجتماع شرطين :
الأول : إخلاص النية فيها لله عز وجل ، بحيث لا يقصد بها إلا وجهه سبحانه ، وضده الشرك والرياء .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : "وكلما حقق العبد الإخلاص في قـول : لا إله إلا الله خرج من قلبه تأله ما يهواه ، وتصرف عنه المعاصي والذنوب ، كما قال تعالى في سورة يوسف : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(24) . فعلل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد الله المخلصين ، وهؤلاء الذين قال فيهم في سورة الحجر : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ..(24) . وقال الشيطان كما في سورة ص : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83) . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه حرمه الله على النار". ولهذا كان العبد مأموراً في كل صلاة أن يقول : (إياك نعبد وإياك نستعين) . وابتدأ العلماء حديثهم في كتبهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إنما الأعمال بالنيات ..الحديث ) وقال تعالى في سورة البينة يبين أساس دين القيمة : (وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ(5) .
الثاني : متابعة الشرع فيها وفق ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة أو نقصان . وهذا لا يتم إلا من ذي علم . وضده الجهل والبدع واتباع الهوى .
وهكذا فإن العمل إذا كان خالصاً ، ولم يكن صواباً لم يقبل . وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل . فلا يقبل حتى يكون خالصاً وصواباً . والخالص أن يكون لله تعالى ، والصواب أن يكون على السنة .
إن الإخلاص وإن كان أساس كل شيء ، إلا أنه ليس كل شيء . إذ لا بد أن يضاف إليه العلم ، وإلا انعكس سير العبد إلى الخلف أو ظل مكانه .
وقد قال العلماء الطرق مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم).
وقال تعالى في سورة يوسف : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(1.
. فقوله تعالى : (عَلَى بَصِيرَةٍ ) : أي على علم ويقين .
فالعقيدة الصحيحة من أجل أن تكون عبادتك خالصة لله تعالى . والعقيدة الصحيحة من أجل أن تكون عبادتك لله تعالى على علم وبصيرة ويقين . والعقيدة الصحيحة من أجل أن يقبل عملك الصالح وتثاب عليه . .......................... تعلم العقيدة الصحيحة يكون من مصادرها الصحيحة :
في سورة النحل بيَّن الله تعالى أنه خلق الناس لا يعلمون شيئاً ، ثم زوَّدهم بوسائل المعرفة ، قال تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(78). قال السعدي ـ رحمه الله ـ : خص الله تعالى هذه الأعضاء الثلاثة ، لشرفها ، وفضلها ، ولأنها مفتاح لكل علم .
قلت: بعد أن منَّ الله علينا بهذه الأعضاء المهمة ، نبَّه على أهمية استعمالها في طاعة الله تعالى ، فمن استعملها في الحق ، استعمله الله في العمل الصالح ، فيكون العبد بعدئذٍ ، عبداً لله شاكراً.
لذا ذمَّ الله الكثرة التي سقطت في الابتلاء فقال في سورة النمل : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ(73).
وامتدح القلَّة فقال في سورة سبأ : (..اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13). وقال في سورة المؤمنون : (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ(78).
وتحديد مصدر العلم الصحيح ، أو المعرفة الصحيحة ، من أهم قضايا المنهج الصحيح .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (2/4): "ولهذا كان طائفة من أئمة المصنفين للسنن على الأبواب ، إذا جمعوا فيها أصناف العلم ، ابتدأوا بأصل العلم والإيمان ، كما ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله ، فأخبر عن صفة نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم أتبعه بكتاب الإيمان الذي هو الإقرار بما جاء به ، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه ترتيبه الحقيقي ، وكذلك الإمام أبو محمد الدارمي ـ رحمه الله ـ صاحب المسند، ابتدأ كتابه بدلائل النبوة".
وبيَّن ابن القيم في كتابه "الفوائد" (صفحة :116) أن سبب انحراف المنحرفين مرتبط بانحرافهم عن مصدر المعرفة الصحيح ، فقال : ومن هنا يتبين انحراف أكثر الناس عن الإيمان لانحرافهم عن صحة المعرفة وصحة الإرادة .
ثم بيَّن مصدر المعرفة الموصل إلى الاستقامة والهدى فقال :
"ولا يتم الإيمان إلا بتلقي المعرفة من مشكاة النبوة ، وتجريد الإرادة عن شوائب الهوى وإرادة الخلق ، فيكون علمه مقتبساً من مشكاة الوحي ، وإرادته لله والدار الآخرة ، فهذا أصح الناس علماً وعملا ً، وهو من الأئمة الذين يهدون بأمر الله، ومن خلفاء رسوله في أمته" .أ.هـ
فأول مصدر من مصادر المعرفة لدى المسلمين ، هو الوحي من كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو مصدر المعرفة الحق الذي بدونه لا تستقيم حياة ، ولا ينعم عيش ، فهو هدى الله الذي أنزله لهداية الناس وإصلاحهم . وهم لا يعدلون بهذا المصدر بديلاً ، ولا يرون له مثيلاً ، فهو مصدر اصطفاه الله لهم .
قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "مجموع الفتاوى" (1/3):
وبعث الله محمداً بأفضل المناهج والشرع ، وأحبط به أصناف الكفر والبدع ، وأنزل عليه أفضل الكتب والأنباء ، وجعله مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء . وجعل أمته خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله . وهو شهيد عليهم ، وهم شهداء على الناس في الدنيا والآخرة بما أسبغه عليهم من النعم الباطنة والظاهرة ، وعصمهم أن يجتمعوا على ضلالة إذ لم يبق بعده نبي يبيِّن ما بدل من الرسالة ، وأكمل لهم دينهم ، وأتم عليهم نعمه ورضي لهم الإسلام ديناً ، وأظهره على الدين كله إظهاراً بالنصرة والتمكين ، وإظهاراً بالحجة والتبيين ، وجعل فيهم علماءهم ورثة الأنبياء يقومون مقامهم في تبليغ ما أنزل من الكتاب ، وطائفة منصورة لا يزالون ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى حين الحساب . وحفظ لهم الذكر الذي أنزله من الكتاب المكنون كما قال تعالى في سورة الحجر: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9). فلا يقع في كتابهم من التحريف والتبديل كما وقع من أصحاب التوراة والإنجيل . وخصَّهم بالرواية والإسناد الذي يميز به بين الصدق والكذب الجهابذة النقاد ، وجعل هذا الميراث يحمله من كل خلف عدوله أهل العلم والدين ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، لتدوم بهم النعمة على الأمة ، ويظهر بهم النور من الظلمة ، ويحيي بهم دين الله الذي بعث به رسوله ، وبيَّن الله بهـم للناس سبيله ، فأفضل الخلق أتبعهم لهذا النبي الكريم المنعوت في قوله تعالى في سورة التوبة : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128). أما المصدر الثاني من مصادر المعرفة فهو الكون بسمائه ، وأرضه ، وشجره ، وحجره ، وجميع الخلق فيه .
قال الله تعالى في سورة الغاشية : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ(17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ(18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ(19) وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ(2.) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21).
تعلم العقيدة الصحيحة من كتاب الله تعالى ـ القرآن ـ :
لذلك كان قول الله تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم في سـورة الشـورىوَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) .
قال الشنقيطي ـ رحمه الله ـ : والضمير في قوله تعالى : (وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا ) راجع إلى القرآن العظيم المذكور في قوله : (رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ) ، وقوله : (مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ) ومعنى هذا : ولكن جعلنا هذا القرآن العظيم نوراً نهدي به من نشاء هدايته من عبادنا . وسُمِيَ القرآن نوراً لأنه يضيء الحق ويزيل ظلمات الجهل والشك والشرك كقوله تعالى في سورة النساء : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قد جاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوْرَاً مُبِيْناً) ، وقوله تعالى في سورة الأعراف واتَّبِعُوا النُّوْرَ الَّذِي أَنْزَلْنَا مَعَهُ) .
فيجب على كلِّ مسلمٍ أن يستضيء بنور القرآن ، فيعتقد عقائده ، ويحلُّ حلاله ، ويُحرِّمُ حرامه ، ويمتثلُ أوامره ، ويجتنب ما نهى عنه ، ويعتبر بقصصه وأمثاله .
كما وأن أولَّ ما سمع الجِنُّ القرآن : ( فَقَالُوْا إنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً(1) يَهْدِيْ إِلَى الرُشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) .
وفي سورة الأحقاف قال تعالى : ( وإذْ صَرَفْنَا إليكَ نفراً مَنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمَهِمْ مُنْذِرِيْن (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيْقٍ مُسْتَقِيْم (3.) يَا قَوْمَنَا أَجِيْبُوا دَاعِيَ اللهِ وآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مَنْ ذُنُوبِكُمْ ويُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيْم ) . قال ابن كثير في التفسير: ولم يذكروا عيسى لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات ، وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة التوراة فلهذا قالوا : (أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى ) .
وقولهم ـ أي الجَنّ ـ : ( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ) أي : في الاعتقاد والإخبار ( وَإِلَى طَرِيْقٍ مُسْتَقِيْم ) في الأعمال . والطريق هنا هو السبيل المطروق . وقد مرَّت عليه الرُسُلُ قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنَّ محمداً ليس بِدعاً في ذلك ، لذلك كان معنى هذا في مطلع السورة نفسها : ( قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعَاً مِنَ الرُسُلِ ).
أخرج مسلم في "صحيحه" ، والدارمي ، وابن مـاجه ،عـن عـمر بن الخطـاب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الله يرفعُ بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ).
وقال تعالى في سورة الإسراء : ( إنَّ هذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَم ) قال ابن كثير : يمدح الله تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل .
تعلم العقيدة الصحيحة وفق ما جاء به الأنبياء ، وآخرهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
يلحُّ القرآن على أنَّ الأنبياء هم الأَدِلاَّءُ على ذات الله وصفاته الحقيقية ، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال ولا سوء فهم ، ولا سوء تعبير ، ولا سبيل إلى معرفة الله تعالى الصحيحة إلاّ ما كان عن طريقهم ، لا يستقل بها العقل ، ولا يغني فيها الذكاء ، ولا تكفي سلامة الفطرة ، وحدة الذهن والإغراق في القياس، والغنى في التجارب . وقد ذكر الله تعالى هذه الحقيقة الناصعة على لسان أهل الجنة وهم أهل الصدق وأهل التجربة . وقد أعلنوا ذلك في مقام صدق ـ كما في سورة الأعراف ـ : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ (43) . وقرنوا هذا الاعتراف والتقرير بقولهم :ـ ( لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق ) . فدلَّ على أنَّ الرسل وبعثتهم هي التي تمكنوا بها من معرفة الله تعالى ، وعلم مرضاته وأحكامه والعمل بها .
وقد حكى الله تعالى قصة الأمم التي غلب عليها الزهو والتيه واستصغرت شأن الأنبياء والمبعوثين في عصرها ، الذين اشتهروا بامتياز في علوم من العلوم السائدة ، فقال تعالى في سورة غافر : ( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(83).
والعلم النافع الذي ينشره الأنبياء بين الناس ، والعقيدة التي يدعون إليها ، والدعوة التي يقومون بها ، لا تنبع من ذكائهم ، أو حميتهم ، أو تألّمهم بالوضع المزري الذي يعيشون فيه ، أو من شعورهم الدقيق الحسِّاس ، وقلبهم الرقيق الفياض ، أو تجاربهم الواسعة الحكيمة ، لا شيء من ذلك ، إنَّما مصدره الوحي والرسالة التي يصطفون لها ويكرمون بها ، فلا يقاسون أبداً على الحكماء أو الزعماء أو المصلحين وجميع أصناف القادة التي جربتهم البشرية وتاريخ الإصلاح .
تعلم العقيدة الصحيحة وفق ما وعاه السلف الصالح :
قال تعالى في سورة لقمان : ( واتَّبِعْ سَبِيْلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ) . قال ابن كثير يعني : المؤمنين ، قلت : وعلى رأسهم الصحابة ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ ، فكلّهم منيب إلى الله ، فهداهم إلى الطيِّبِ من القول ، والصالح من العمل ، بدليل قوله تعالى في سورة الزُّمَر : ( وَالَّذِيْنَ اِجْتَنِبُوا الْطَاغوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إَلَى اللهِ لَهُمْ البُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ( 17) الَّذِيْنَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ أُولُوا الأَلْبَاب (18) .
فوجب اتباع سبيل الصحابة في الفهم لدين الله كتاباً وسنَّة ، وبذلك هدد الله من اتَّبع غير سبيلهم بجهنم وبئس المصير ، قال تعالى في النساء : ( وَمَنْ يُشَاقِقِِ الْرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيْلِ الْمُؤْمِنِيْنَ نُوَلِّهِ مَا تَولَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيْراً ) .
عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ليأتينَّ على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل ، حذو النعل بالنعل حتى لو أن فيهم من نكح أمَّهُ علانية ، كان في أُمَّتي من يفعل مثله ، إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملَّة ، وتفترق أُمَّتي على ثلاث وسبعين مِلَّة ، كُلّها في النار إلاّ واحدة ، فقيل يا رسول الله : ما الواحدة ؟ قال : ما أنا عليه اليوم وأصحابي ) .
وعن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ ، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة ، وإن عبداً حبشياً ، فإنه من يعشْ منكم يرى اختلافاً كثيراً ، وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة ، فمن أدرك ذلـك منكم فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين عُضُّوا عليها بالنواجذ).
قال الشيخ سليم بن عيد الهلالي في كتابه "درء الارتياب عن حديث ما أنا عليه اليوم والأصحاب" : ووجه الدلالة أن قوله صلى الله عليه وسلم : (عليكم بِسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين ) تعني : ما أنا عليه اليوم وأصحابي .
ثم قال : اعلم أخا الإيمان أرشدك الله للحق ، أنّ هذا العطف لا يفيد أنّ للخلفاء الراشدين تتبع دون سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل إنَّهم اتَّبعوا سنته صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة لذلك وُصِفُوا بالهداية والرشد ، فأضافها لهم صلى الله عليه وسلم لأنهم أحقُّ بها وأهلها وأولى الناس بفهمها . وهذا المعنى قاله :
ـ إبن حزم : أن يكون باتباعهم في إقتدائهم بسنته عليه السلام .
ـ ابن تيمية : وأما سنّة الخلفاء الراشدين ، فإنَّ ما سنُّوه بأمره ، فهـو في سنَّته ، ولا يكون في الدين واجباً إلاّ ما أوجبه ، ولا حراماً إلاّ ما حرَّمه ، ولا مُستحباً إلاّ ما استحبه ، ولا مكروهاً إلاّ ما كرهه ، ولا مُباحاً إلاّ ما أباحه .
ـ الفلاني : وإنما يقال سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ليعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو عليها .
ـ القاري : فإنهم لم يعملوا إلاّ بسنتي فالإضافة لهم إمّا لعلمهم بها ، أو لاستنباطهم واختيارهم إياها .
ـ المباركفوري : ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلاّ طريقتهم الموافقة لطريقته صلى الله عليه وسلم .
وعـن عبدالله بـن مسعود : إنا نقتدي ولا نبتدي ، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضلّ ما تمسكنا بالأثر .
وعن ابن عون عن محمد بن سيرين قال : كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر .
وعن عبدوس بن مالك العطار قال : سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل يقول : أصول السنَّة عندنا : التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والإقتداء بهم ، وترك البدع ، وكلّ بدعة فهي ضلالة ، وترك الخصـومات ، والجلوس مع أصحاب الأهواء ، وترك المراء والجدال ، والخصومات في الدين .
تعلم العقيدة الصحيحة يكون على أصولها وعلمائها ، فالفهم الصحيح نعمة :
قال ابن القيم – رحمه الله – في "إعلام الموقّعين" (1/87) : صحة الفهم ، وحسن القصد ، من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، بل ما أعطي عبد عطاءً بعد الإسلام أفضل ، ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليه الذين حسنت أفهامهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم ، الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل..، ويمده حسن القصد وتحري الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق ، وترك التقوى .أ.هـ
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/124) : والذي عليه جماعة فقهاء المسلمين وعلمائهم ذم الإكثار دون تفقه ولا تدبر.
وروى الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَـال : إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ . وعنه أيضاً : لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإسْنَادِ ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ قَالُوا سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ ، فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُّنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ ، وَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ الْبِدَعِ فَلا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ .
تعلم العقيدة الصحيحة يحل جميع المشاكل :
"اتفق جميع الرسل على الأمر بتوحيد الله والنهي عن الشرك ، وأن من أشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة وماوأه النار . كما دلت العقول السليمة والفطر المستقيمة على فساد الشرك والتأله والتعبد للمخلوقات والمصنوعات . فالشرك باطل في الشرع فاسد في العقل . عاقبة أهله الهلاك والشقاء .
ومن الناس من آمن ببعض الرسل والكتب السماوية دون بعض ، مع أن الرسل والكتب يصدق بعضها بعضا ، ويوافق بعضها بعضاً ، وتتفق في الأصول الكلية ، فصار هؤلاء ينقض تكذيبهم تصديقهم ، ويبطل اعترافهم ببعض الأنبياء وبعض الكتب السماوية تكذيبهم للآخرين من الرسل ، فبقوا في دينهم منحرفين ، وفي إيمانهم متحيرين ، وفي علمهم متناقضين . قال تعالى في سورة النساء : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً(15.) أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ حَقًّا ..(151) . ومن الناس طائفة ادعت الفلسفة والعلم بالمعقولات ، فجاءت بأكبر الضلالات وأعظم المحالات ، فجحدت الرب العظيم وأنكرت وجوده فضلاً عن الإيمان بالرسل والكتب وأمور الغيب ، وجحدوا آيات الله واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً واستكباراً ، فكذبوا بعلوم الرسل وما دلت عليه الكتب المنزلة من عند الله واستكبروا عنها بما عرفوا من العلوم الطبيعية وتوابعها ، وأنكروا جميع الحقائق إلا ما أدركوه بحواسهم وتجاربهم القاصرة الضيقة بالنسبة إلى علوم الأنبياء . فعبدوا الطبيعة وجعلوها أكبر همهم ومبلغ علمهم ، واندفعوا وراء ما تقتضيه طبائعهم ، ولم يتقيدوا بشيء من الشرائع الدينية ولا الخلاق الإنسانية . فصارت البهائم أحسن حالاً منهم ، فإنهم نضبت منهم الأخلاق ، واندفعوا وراء الشهوات البهيمية . فلم يكن لهم غاية يرجونها ، ولا نهاية يطلبونها : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاّ الدَّهْرُ) ، وصار المشركون على شركهم وكفرهم أحسن حالاً منهم وأقل شرا منهم بكثير . والعجب الكثير أن هذا المذهب الخبيث جرف بتياره في الأوقات الأخيرة جمهور البشر ، لضعف الدين وقلة البصيرة ولما وضعت له الأمم القوية الحبائل والمصائد التي هلك بها الخلق.
أما الدين الإسلامي فقد أخرج الخلق من ظلمات الجهل والكفر والظلم والعدوان وأصناف الشرور إلى نور العلم والإيمان واليقين والعدل والرحمة وجميع الخيرات قال تعالى في سورة آل عمران : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(164). وقال في سورة النحل : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(9.) . وقال في سورة الإسراء : (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ..(9) . وقال في سورة المائدة : (..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينًا..(3) . وقـال في سورة الأنعـام : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً..(115).
فهو الدين الذي يوجه العباد إلى كل أمر نافع لهم في دينهم ودنياهم . ويحذرهم عن كل أمر ضار في دينهم ومعاشهم ، ويأمرهم عند اشتباه المصالح والمفاسد والمنافع والمضار بالمشاورة في استخراج ما ترجحت مصلحته ، ودفع ما ترجحت مفسدته .
الخلاصة في أهمية تعلم العقيدة الصحيحة
1/ الإخلاص لله تعالى . 2/ طلب العلم النافع . 3/ اتباع منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى . 4/ التقيد بمنهج السلف الصالح في الدعوة إلى الله تعالى . 5/ العمل بما يدعو إليه . 6/ الصبر على ما يلاقي في سبيل الدعوة إلى الله تعالى من مشاق . 7/ التحلي بالأخلاق الحسنة . 8/ الأمل بالله تعالى ، وأن لا نيأس من نصر الله تعالى ومعونته .