تحذيرُ ذَوي الدِّيَانة من قنوات السِّحر والكهانة
ماجد بن سليمان الرسي
تكالبَ أعداءُ الله لإفساد وإضلال البشر، فبعد القنوات الهابطة المفسدة للأخلاق، بنشر العُهر والرقص والخلاعة والمجون، هاهم مرة أخرى يهجمون ولكن هذه المرة على العقيدة، عبر نشر السحر، وتمجيد السحرة والكهنة والعرافين، ففتحت قنوات للدجل والخرافة؛ لإفساد عقيدة المسلمين، ومن شدة تلبيس هؤلاء السحرة الأشرار أنهم يدَّعون أنهم يعالجون بالقرآن فقط!!، وهذا من باب التلبيس على باطلهم، فينصحون كل متصل بقراءة آيات معينة بماء أو زيت، وهذا من باب ذر الرماد في العيون، وإلا فهم أبعد الناس عن القرآن وهديه، وكيف وهم يدنسون كتاب الله في أماكن القذارة كشرط من الشروط للتقرب للشياطين، والسحرة دائماً يسألون المتصلين عن أسماء الأمهات، ويتلون آيات بتحريف وأخطاء عجيبة، ويَدْعُونَ غير الله، قاتلهم الله أجمعين، ومن هنا وجب على كل مسلم التنبه لخطر السحرة والمشعوذين والدجالين الضالين المضلين، ووجب على كل غيور إنكار هذا الخطر ومحاربته حماية لجناب العقيدة، وقد سطَّرت في هذا المقام توجيهات وتحذيرات عن خطر السحرة والكهنة من الدجاجلة الذين يدعون علم الغيب، والله المعين.
اعلم رحمك الله - تعالى -أن علم الغيب صفة خاصة بالله - تعالى -، لا يشاركه فيها أحد من خلقه، قال - تعالى -: (إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [فاطر 38]، وقال - تعالى -: (فَقُلْ إِنَّمَا لْغَيْبُ لِلَّهِ )[يونس 20] وقال: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ )[النمل: 65].
وعن الرُّبـيِّع بنت مُعوِّذ قالت: جاء النبيُّ (فدخُلُ حين بُنِيَ عليَّ فجلسَ على فِراشي كمجلِسكَ منّي، فجعلتْ جُوَيْرِياتٌ لنا يَضربنَ بالدُفِّ ويَندُبنَ مَن قُتلَ من آبائي يومَ بدرٍ، إذ قالت إحداهنَّ: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غَدِ، فقال: « دَعي هذِهِ وقولي بالذيِ كنتِ تقولين». وفي رواية قال: « أَمَّا هذَا، فَلاَ تَقُولُوهُ. مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ». (1)
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ رسولَ الله (قال: «مَفاتيحُ الغيب خمسٌ لا يعلمها إلاّ الله: لا يَعلمُ ما في غَدٍ إلا الله، ولا يَعلمُ ما تَغيضُ (2)الأرحامُ إلا الله، ولا يعلمُ متى يأتي المطرُ أحدٌ إلاّ الله، ولا تدري نفسُ بأيِّ أرضِ تموت، ولا يعلمُ متى تقومُ الساعة إلا الله». (3)
قال الشيخ صنع الله بن صنع الله الحلبي الحنفي - رحمه الله -: " الغيب مصدر، وُصف به الشيء الغائب، مبالغة في تحقيق غيبته، وهو ما غاب عن الحس والعقل غيبة كاملة، بحيث لا يُدرك بواحد منهما ابتداء بطريقة البداهة.
وهو قسمان:
أ- قسم نصب الله الدليل عليه، وهو ما يتعلق به الإيمان، كالصانع وصفاته، وما يتعلق به من الشرائع والأحكام واليوم الآخر وأحواله من البعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وهو المراد من قوله جل ذكره الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] ونحو هذا من الآيات.
ب- والقسم الثاني مما لا دليل عليه، وهو قسمان:
1- قسم مضى.
2- وقسم مستقبل.
ثم قال: والمستقبل: مختص به - تعالى -، وهو المراد بقوله جل ذكره (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ ) [الأنعام: 59]، وما هو نحوه من الآيات.
فهذا مما لا قائل به في الإسلام لا بطريق كشف ولا غيره، لأن الإجماع منعقد على أنه - تعالى -هو المتصرف بالخوارق، لأنه الخالق، وهو المخصوص بعلم الغيب المستقبل، لاختصاص المقدورات الغيبية به - تعالى -من حيث العلم والقدرة، فلا شريك له من أحد في ذلك.
قال جل ذكره لأفضل خلقه: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ )[الأعراف: 188].
فإذا نفى الله النفع والضر والغيب عن نفس نبيه، فأنى يكون ذلك لغيره؟! نعم ما أَذن به لرسوله بالوحي المنـزل فهو خبر عن الله لا عن غيره، لأنه وكيل عن الله في قواعد دينه، وإثبات يقينه، وإخباره بذلك من معجزاته، وهي من آيات الله بوحيه، فلا دخل لغيره في مثلها ". (4) انتهى كلامه - رحمه الله -.
وقد وقع أناس في ادعاء علم الغيب لغير الله من السحرة والكهان والعرافين وغيرهم، وهذا ضلال مبين، بل من وصفهم بصفات الرب، - تعالى -الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
باب في الكهنة
وممن يدعي علم الغيب الكهنة، والكاهن هو: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، والكاهن يسلك أحد طريقين في الأخذ عن الجن:
الأول: الأخذ عن الجن الذين يسترقون السمع من السماء من كلام الملائكة، وقد كان مسترقوا السمع من السماء قبل بعثة النبي كثير، وأما بعد البعثة فقلّوا؛ لأن الله - تعالى -حرس السماء بالشهب، قال - تعالى -حكاية عن الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا لسَّمَآءَ فَوَجَدْنَـهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَـعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ لأٌّنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ) [الجن 8ـ9]، وقال في أول سورة الصافات [6ـ10]: (إِنَّا زَيَّنَّا لسَّمَآءَ لدُّنْيَا بِزِينَةٍ لْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَـنٍ مَّارِدٍ * لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى لْمَلإًّ لأٌّعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ * دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ * إِلاَّ مَنْ خَطِفَ لْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ) (5)، فإن أدركه الشهاب أحرقه ولم يستطع إبلاغها لمن تحته من الشياطين، وإن سبق الشهاب وأبلغها للكاهن كذب معها الكاهن مائة كذبة، ثم يُبلغ الكاهن من أتاه من الناس تلك الكذبة، فإن وقعت صدقاً فهي من سرقاته وليس من اطلاعه على الغيب، وإن كانت كذبة فربما انطلت تلك الكذبة على ذاك السائل.
الثاني: الاستعانة بقرين الإنسان من الجن، فإن لكل إنسان قريناً من الجن يأمره بالخير، وقريناً من الجن يأمره بالشر، كما ثبت هذا في الصحيح، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن.." وفي رواية: "وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة "، (6) وأغلب كهان زماننا يستعينون بهم؛ لأنهم يخبرون الشخص بما يتعلق به من الأمور الخاصة التي يطلع عليها القرين، كمكان عمله واسم زوجه وأمه واسم بلده وعنوان بيته، ونحو ذلك مما يعرفه القرين.
ولذا يقول بعض الذين يعالجون بالرقى الشرعية ويعرفون طرق السحرة والكهنة: إذا أردت فضح الكاهن فاسأله عن شيء لا تعرفه أنت مما هو غيب آنٍ، فإنك إن لم تكن تعرفه أنت فلن يعرفه قرينك من الجن، ومن ثم فلن يهتدي الكاهن إلى شيء، مثل أخذ شيء من الحصى من الأرض وقبض اليد، ثم سؤال الكاهن: كم في يدي من الحصى؟ فإنه سيتهرب ولن يجيب، لأن القرين لا يعرف فمن أين يأتي بالجواب؟!
والكاهن يعبد الشيطان الذي نـزل عليه في مقابل خدمته له، وهذا هو مبتغى الشياطين، فهي لا تبغي من وراء بني آدم إلا إغوائهم؛ لأن هذه هي وظيفتهم ورسالتهم، وأول من وقع في شراكهم السحرة والكهنة والعرافين، فهم شياطين الإنس، وأولئك شياطين الجن، نعوذ بالله من شرورهم.
أدلة اتصال الكهان بالشياطين:
وقد جاء في صفة استراق السمع واتصال الكهان مع الشياطين أربعة أحاديث:
الدليل الأول:
ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي (قال: إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، يَنفُذهم ذلك، ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) [سبأ: 23]، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، - وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيُصدّق بتلك الكلمة التي سُمِعت من السماء. (7)
وقوله: (إذا قضى الله أمره في السماء)، أي: إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون.
قوله (خُـضعاناً لقوله)، أي: لقول الله - عز وجل -.
قوله: (كأنه سلسلة على صفوان)، أي: كأن الصوت المسموع صوت سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس.
قوله: (ينفذهم ذلك)، أي: يبلغهم كلهم ويخلص إليهم.
ثم يصعقون بعد ذلك حتى يفزع عن قلوبهم، أي: يزال عنها الفزع والخوف والغشي.
قوله: (قالُوا مَاذا قالَ ربُّكُم(، أي: الملائكة يسأل بعضها بعضاً: ماذا قال ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: قال الحق، أي ما قال إلا حقاً.
قوله: (وصفه سفيان بكفه)، أي: وصف ركوب بعضهم فوق بعض.
قوله: (بدَّد)، أي فرَّق.
قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته): أي: يستمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الكاهن.
قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها)، الشهاب هو النجم الذي يرمى به، أي ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رُمي به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته، وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب.
قوله: (فيكذب معها مائة كذبة)، أي: يكذب الكاهن مع الكلمة التي ألقاها إليه وليه من الشياطين مائة كذبة، ثم يخبر بها ولِـيه (
من الإنس، فيفتتن السائل بالكاهن، وكلاهما يفتتنان بوليهما من الشياطين، ويقبلان ما جاؤوا به من الصدق والكذب؛ لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء.
قوله: (أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا)، يعني: أن الذين يأتون الكهان يُصدِّقونهم في كذبهم، ويستدلون على ذلك بكونهم يصدُقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي، ويذكرون أنه أخبرهم مرة بشيء فوجدوه حقا، فيفتنون بها.
قوله: (فيصدُق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء) أي: يستدلون على صدقه بها.
الدليل الثاني من أدلة اتصال الكهان بالشياطين:
ما جاء في صحيح البخاري عن عائشة مرفوعًا: إن الملائكة تنـزل في العنان، وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع فتسمعه، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم. (9)
والدليل الثالث من أدلة اتصال الكهان بالشياطين:
حديث عائشة قالت: سأَلَ أناسٌ رسولَ الله(عن الكهّان، فقال لهم رسولُ الله(: «ليسوا بشيء». قالوا: يارسولَ الله فإنهم يُحدِّثون أحياناً بالشيء يكون حقاً، فقال رسولُ الله(: «تلكَ الكلمةُ من الحقِّ يَخطفها الجني فيَقُرها في أُذنِ وَليِّه قرَّ الدجاجة، فيَخلطون فيها أكثرَ من مائةِ كذْبة».. (10)
وفي الحديث: شدة قبول الناس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة، ولا يعتبرون بمائة كذبة.
الدليل الرابع من أدلة اتصال الكهان بالشياطين:
حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أخبرني رجل من أصحاب النَّبِي من الأنصار أنّهم بينما هم جلوسٌ ليلةً مع رسولِ اللّه رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ. فقال لهم رسول اللّه: «مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَـذَا»؟ قالُوا: اللّهُ ورسُولُهُ أَعلَمُ، كُنَّا نَقُولُ وُلِدَ اللَّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ: «فَإِنَّهَا لاَ يُرْمَى بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، وَلكِنْ رَبُّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ، إِذَا قَضَى أَمْراً سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَـذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ، قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضَاً، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَـذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ، وَيُرْمَوْنَ بِهِ، فَمَا جَاؤُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ وَلكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ».. (11)
وفي رواية: قال معمر: قلت للزهري: أكان يُرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكنها غَـلُظت حين بُـعث النبي .
والدليل الخامس من أدلة اتصال الكهان بالشياطين:
حديث عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال النبيُّ (لابن صَيادٍ: «خَبَأتُ لك خَبيئاً». قال: الدُّخ. قال: « اخْسَأ فلن تَعْدُوَ قدركَ.. » )(12).
قال شيخ الإسلام في حق ابن صيَّاد هذا: "كان من جنس الكهان، قال له النبي (: (قد خبأت لك خبأ)، قال: الدُّخ الدُّخ، وقد كان خبأ له سورة الدخان فقال له النبي (: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت من إخوان الكهان " (13).
فالحاصل أن الكهان يفزعون إلى الجن في أمورهم، ويستفتونهم في الحوادث فيلقون إليهم الكلمات. وأكثر ما يقع من هذا الباب ما يخبر به الجن مواليهم من الإنس عن الأشياء الغائبة مما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفاًً وكرامة، وأن ذلك الكاهن ولياً من أولياء الله، وهو من أولياء الشيطان، كما قال - تعالى -عنهم في آخر سورة الشعراء [221ـ222] (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ).
باب في العرّافين
أما العرَّاف فهو صيغة مبالغة من (عَـرَف)، وهو أعم من الكاهن، وهو المنجم أو الحازي الذي يدَّعِي معرفة علم الغيب سواء عن طريق الكهانة، أو عن طريق التنجيم، أو الرمل، أو غير ذلك. (14) وربما غلب إطلاق كلمة العراف على من يدعي معرفة مكان الضالة.
بيان أدلة أخرى على كذب الكهنة والعرَّافين
ومما يدل على كذب الكهان والعرافين في دعواهم علم الغيب أن النبي (كان لا يعلم من الغيب شيئاً، فكيف يدعي هذا من ليس بنبي؟!
وقد جاء إثبات أن النبي (لا يعلم شيئًا من الغيب في قوله - تعالى -لنبيه: (قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) [الأعراف 188].
قال ابن كثير: " أمره الله - تعالى -أن يفوض الأمور إليه، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه، كما قال - تعالى -(عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً )" الآية [الجن 26]. انتهى (15).
وقال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ) [الأعراف 50].
يقول الله - تعالى -لرسوله: (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ (، أي: لست أملكها ولا أتصرف فيها.
(وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ (، أي: ولا أقول لكم إني أعلم الغيب، إنما ذاك من علم الله - عز وجل -، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه. انتهى (16).
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "من زعمَ أنه(17) يُخبرُ بما يكونُ في غدٍ فقد أَعْظَمَ الفِرية(18) على الله، والله يقول: (قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ ) [النمل 65] "، هذا لفظ مسلم (19).
ولفظ البخاري: "من حدَّثك أنه(20) يعلمُ ما في غدٍ فقد كذبَ، ثم قرأت: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ) [لقمان 34] (21).
وفيهما عن أم سلمة - رضي الله عنها -، عن رسولِ اللهَ (أنه سمعَ خُصومةً بباب حجرتهِ، فخرجَ إليهم فقال: «إنما أنا بَشَرٌ وإنهُ يأتيني الخصمُ فلعلَّ بعضكم أن يكونَ أبلغ من بعضٍ فأحسبُ أنَّهُ صادقٌ فأقضي له بذلك، فمن قضَيتُ له بحقِّ مسلمٍ فإنما هي قِطعةٌ من النار، فليأخُذها أو لِيَتركها» (22).
فلو كان النبي (يعلم الغيب لعلم من الظالم ومن المظلوم، ولم يقض لأحد بشيء ليس له. ولما ابتلي النبي (في عرضه حين رُميت زوجته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -؛ مكث مدة لا يعلم حقيقة الأمر، ورغم أنه كان يحسن الظن بأهله؛ إلا أن ما أشاعه المنافقون من إشاعات أثـَّرت في نفسه (، فاستشار علياً وأسامة - رضي الله عنهما - في شأنها، وسأل عائشة فقال لها: «أَمَّا بَعْدُ. يَا عَائِشَةُ! فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللّهُ. وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ. فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ، تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ»، ولم يكن (يعلم كذِب المنافقين في هذا الأمر المهم الذي يتعلق بأهله حتى أنـزل الله - تعالى -الآيات من سورة النور حيث قال: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ) [النور 11] الآيات، والقصة ثابتة في الصحيحين وغيرهما (23).
فلو كان النبي (يعلم الغيب لعلم أنها بريئة منذ أشيع الخبر، ولم يقل لها ما قاله. ولما قالت فاطمة بنت قيس للنبي (: خطبني أبو جهم ومعاوية، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم- : «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلاَ يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، (24)، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ (25) لاَ مَالَ لَهُ. انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» (26).
فلو كان النبي (يعلم الغيب لعلِم أن معاوية سيكون ملكاً، وسيكون أغنى العرب، ولما قدم وفد بني حنيفة على رسول الله (وفيهم مسيلمة الكذاب؛ أتوه وتركوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحباً لنا في رحالنا وركابنا يحفظها لنا، فأمر له رسول الله (بمثل ما أمر به للقوم وقال: (أما إنه ليس بأشرِّكم مكاناً)، يعني لحفظه ضَيعة(27) أصحابه، ثم انصرفوا، فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله وتنبأ(28) وقال: إني أُشرِكت في الأمر معه (29)، ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: أما أنه ليس بأشركم مكاناً؟ وما ذاك إلا لِما كان يعلم أني قد أُشركت في الأمر معه! (30)
فالشاهد هو أنه لو كان رسول الله (يعلم الغيب لما أثنى عليه وهو يعلم أنه كاذب في مبايعته، وأنه سيدعي النبوة فور رجوعه، وأنه سيكون رأساً لفتنة عظيمة بين الناس.
فالحاصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم- بشر كغيره، تخفى عليه الأمور، ولم يكن يعلم من الغيب شيئاً، وإذا كان الأمر ذلك فمن باب أولى من ليس بنبي، كالكهنة والسحرة والعرافين.
ومما يدل أيضاً على كذب الكهان والعرافين: في دعواهم علم الغيب؛ أن الإخبار عن الغيب مختص بالأنبياء، لأن طريقه الوحي المنـزل لهم لا لغيرهم، قال - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ للَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِى حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) [الشورى51]، وقال جل ذكره: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) [الجن: 26-27]، وقال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ) الآية [آل عمران: 179]، فقد أخبر - تعالى -أنه من وظائف الرسل، وقد ختمت الرسالة به - صلى الله عليه وآله وسلم -، فانسد باب الغيب بموته - صلى الله عليه وآله وسلم - (31).
ومما يدل أيضا على كذب الكهان والعرافين: في دعواهم علم الغيب حال الصحابة والتابعين، الذين هم سادات الأولياء وأئمة الأصفياء، - رضي الله عنهم -، أفكان عندهم من هذه الدعاوى شيء؟ لا والله.
ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله - تعالى -من صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنون والفرقان والذاريات والطور، فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدجل والكذب ومنازعة رب العالمين في صفاته.
ومن أوضح الأدلة أيضاً على كذب الكهنة: دعواهم بأنهم من أولياء الله، وقولهم: (إنا نعلم الغيب)، وهذه الدعوى فيها تزكية للنفس، وتزكية النفس منهي عنها في قوله - تعالى -: (فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ([النجم: 32]، والحقيقة أنهم يريدون المنـزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا والمال، وليس هذا من شأن الأولياء، بل شأن الأولياء عيب أنفسهم واتهامهم لها بالتقصير، وخوفهم من ربهم.
ومن أدلة كذب الكهنة؛ دعواهم أن علمهم بالمغيبات من باب الكرامة، وهذا واضح البطلان، لأن الكرامة لا تتضمن دعوى مشابهة الرب في شيء من خصائصه، وإنما هي حصول أمر خارق للعادة، بدون قصد وتحدٍ ممن حصلت له الكرامة. وقد تقدم ذكر شيء من الكرامات التي حصلت لبعض الصالحين في مقدمة هذا البحث.
النهي عن إتيان الكهنة والعرافين والمنجمين:
وقد جاء الوعيد الشديد في حق من أتى عرافاً أو كاهنًا لمجرد السؤال، فقد روى مسلم عن بعض أزواج النبي (عن النبي (قال: «مَنْ أَتَى عَرَّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً». (32)
وعن أبي هريرة عن النبي (قال: «من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد (». (33)
وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله (: « ليس منا من تطير أو تُطِير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سَحر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنـزل على محمد (». (34)
فالوعيد الوارد في الحديث الأول منطبق على من أتى العراف فسأله فحسب بدون تصديق، والوعيد المذكور في الحديثين الثاني والثالث منطبق على من سأل العراف وصدقه، لأنه حين يصدقه يدعي له شيئاً من خصائص الربوبية وهو علم الغيب، وهذا كفر، نسأل الله العافية.
السَّحرةُ والشياطين
والساحر يستعين بالشيطان على سحره، وبيان ذلك أن الساحر إذا أراد عمل السحر تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريد إيقاعه بالمسحور، واستعان على ذلك بأرواح الشياطين الخبيثة، ثم ينفخ في ُعقدٍ قد عقدها نفخاً معه ريق، و هذا النفخ هو ما يعرف بالنفث، وهو المذكور في قوله - تعالى -: (وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ ) [الفلق: 4]، والمقصود بالنفاثات السواحر اللاتي ينفثن في العقد، فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَسٌ ممازجٌ للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، وقد تساعَد هو والروح الشيطانية على أذى ذلك المسحور، فيصيبه السحر بإذن الله الكوني القدري، كما قال - تعالى -: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ) [البقرة 102].
والساحر يعبد الشيطان الذي يخدمه، والشيطان يستفيد من الساحر عبادته له، لأن هـذه هي وظيفة الشياطين ومهمتهم، وهي إغواء بني آدم، ولهذا قال - تعالى -: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وأنِ اعْبُدونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ) [يس: 60ـ61]
ومن ألوان خدمة الشيطان للساحر أنه ينقله إلى أماكن بعيدة وبسرعة، والذين يرون هذا من الجهال يعتقدون أن ذلك الساحر من أولياء الرحمن، وألحق أنه من أولياء الشيطان، والكلام في خدمة الشياطين للسحرة ومن يعبدهم يطول.
حكم الساحر
والساحر مرتكب كفرًا من وجهين:
الأول: أن الساحر يستعين على سحرِه بالشياطين، والشياطين لا تخدمه إلا إذا ارتكب كفرًا، ككتابة القرآن بدم الحيض، أو السجود لها أي الشياطين -، ونحو ذلك من الأفعال الكفرية، وهذا شرك في العبادة.
الثاني: أن الساحر يدعي علم الغيب، وهذه ردة مستقلة، لأن هذا تكذيب للآيات والأحاديث التي تدل على تفرد الله بعلم الغيب. وهذا شرك في الربوبية.
وقد جاء القرآن صريحاً في كفر من تعلم السحر في موضعين من آية واحدة في سورة البقرة، وهي قوله - تعالى -عن الملكين اللذين يعلمان السحر: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر ) [البقرة: 102]، وقوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) [البقر: 102] أي: من نصيب، وهذا عام في سياق النفي فيعم كل نصيب، وهذا لا يحصل إلا للكافر.
بيان عقوبة الساحر
والسحر من السبع الموبقات أي المهلكات، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي (قال: « اجتنِبوا السَّبعَ الموبقات. قالوا: يا رسولَ اللهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّركُ باللهِ، والسِّحرُ... » الخ (35).
ووصف السحر بأنه موبِـق موافق لقوله - تعالى -: (وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) ([طه: 69].
وقد جاءت الشريعة بقتل الساحر لعظم شره، فقد روى الإمام أحمد عن سفيان عن بجالة بن عبدة قال: أتانا كتاب عمر ـ أي ابن الخطاب ـ قبل موته بسنة: أن اقتلوا كل ساحر وربما قال سفيان: - وساحرة.
قال بجالة: فقتلنا ثلاثة سواحر (36).
وروى البخاري في تاريخه الكبير عن أبي عثمان النهدي قال: كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً وأبان (37) رأسه، فعجبنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله(38).
المنجمون ودعاواهم:
وممن يدعي علم الغيب أهل التنجيم، الذين يدعون معرفة الحوادث المستقبلية بحركة النجوم، قال المنذري في الترغيب والترهيب: والمنهي عنه من علم النجوم هو ما يدّعيه أهلها من معرفة الحوادث الآتية في مستقبل الزمان، ويزعمون أنهم يدركون ذلك بسير الكواكب واقترانها وافتراقها وظهورها في بعض الأزمان، وهذا علمٌ استأثر الله به، لا يعلمه أحد غيره، فأما ما يدرك من طريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة، وكم مضى من الليل والنهار وكم بقي؛ فإنه غير داخل في النهي، والله أعلم (39).
والدليل على دخول المنجمين من ضمن السحرة والكهنة حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله (: « مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ » (40).
ادعاء بعض المتصوفة الإطلاع على الغيب
وقد زعم كثير من المتصوفة والدراويش حتى صار من المستقر عندهم، ومن المعلوم بالضرورة أن الأولياء أو أكثرهم لهم اطلاع على الغيب، واطلاع على اللوح المحفوظ، وممن ادعوا ذلك الشعراني وكان خرافياً كبيراً، فقد ذكر كتابه الطبقات الكبرى إسماعيل بن يوسف الأنباني، وقد كان يزعم أنه يرى اللوح المحفوظ.
وذكر أيضاً إبراهيم بن أبي المجد الدسوقي المصري، وكان يدعي أنه أغلق أبواب النار، وفتح أبواب الجنة، ومن زاره أسكنه جنة الفردوس، وأنه نظر في اللوح المحفوظ وهو ابن ثمان سنين.
وذكر أمورًا أخرى تضحك لسماجتها البهائم. وللدسوقي وغيره من الخرافيين قبور تعظمها الناس وتتوجه إليها، نسأل الله العافية.
الحكمة من إطلاع الله لنبيه على بعض المغيبات
وأما ماوقع على لسان النبي (من ذكر بعض المغيبات فمن الله - تعالى -، لم يَعلمه النبي (بنفسه، والشاهد لهذا قوله - تعالى -: (عَالِمُ الغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ) [الجن: 26-27].
والغاية من إطلاع الله - تعالى -لنبيه على بعض المغيبات أن تكون معجزة له، وبرهاناً على نبوته، وتثبيتاً لقلبه، وتبليغاً لرسالة ربه.
ومن ذلك أن الله - تعالى -أطلع نبيه مثلاً - على شيء من صفة الجنة وصفة النار، والحكمة من هذا تنشيط المؤمنين للعمل الصالح، وترهيبهم من المعاصي.
وفي أبواب الفتن من كتب الحديث أخبار كثيرة صحيحة عن النبي (فيما سيكون في آخر الزمان، مما أخبره الله أنها ستكون، وقد ظهر بعضها، والباقي سيظهر لا محالة، فليراجعها من أراد الاستزادة، فالمقام ليس مقام تقصٍ.
خُـلاصةٌ خاتمة
وخلاصة القول إن علم الغيب صفة ثابتة لله - تعالى -وحده لا شريك له، لا يشاركه فيها أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، والإيمان بها داخل في توحيد الأسماء والصفات، ومن صرفها لغيره فقد ألحد في صفاته، وشرّك بين الله وبين خلقه فيما هو من خصائصه، وشبهه به، وقد روى الذهبي بإسناده إلى إمام أهل السنة في زمانه نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبَّه اللهَ بخلقه فقد كفر (41).
ومما تقدم تقريره يعلم المخاطر لبرامج السحر والسحرة، في صرف الناس عن العقيدة السليمة، والاعتقاد في هؤلاء بأنهم يعلمون الغيب، بما يخبرون به السذج من بعض التفاصيل في حياتهم، ولا شك أن هذا ضلال مبين وجب على المسلم والمسلمة الحذر منه، حتى لا يقعوا في مزالق تمس دينهم وهم لا يعلمون، حمانا الله من دجل المشعوذين والكهنة والعرافين، والحمد لله رب العالمين.
____________
(1) رواه البخاري (5147)، وأحمد (6/359) والترمذي (1090)، وأبو داود (4922)، وابن ماجه (1897) والرواية المشار إليها له.
(2)الغيض هو النقص، والمقصود هو أن الله متفرد بعلم ما نقص من حمل المرأة عن تسعة أشهر، وهو يعلم كذلك كم يزيد حملها عن تسعة أشهر، قال - تعالى -(الله يعلم ما تحمل كل أثنى وما تغيض الأرحام وما تزداد(، انظر تفسير الآية في تفسير القرآن العظيم لعماد الدين ابن كثير - رحمه الله -، سورة الرعد.
(3)أخرجه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب: لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، (1039).
(4) « سيف الله على من كذب على أولياء الله ». ص 55، باختصار وتصرف يسير.
(5) قال الحافظ ابن كثير: أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء، فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله - تعالى -قبل أن يأتيه الشهاب فيحرقه فيذهب بها الآخر إلى الكاهن كما تقدم في الحديث، ولهذا قال إِلاَّ مَنْ خَطِفَ لْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ أي مستنير. تفسير القرآن العظيم 7/4.
(6) رواه مسلم (2814)
(7) رواه البخاري (4701، 4800، 7481).
(
أي نصيره وحليفه. (المعجم الوسيط)
(9)رواه البخاري (3210).
10))رواه البخاري (6213) ومسلم (2228).
(11)رواه مسلم (5771)
(12) البخاري (6471) مسلم (7294)
(13) الفتاوى 11/283
(14) انظر « لسان العرب »، مادة عرف.
(15) تفسير القرآن العظيم 2/247
(16) تفسير القرآن العظيم 2/135
(17)أي: رسول الله (.
(18)الفرية هي الكذبة.
(19) مسلم (177).
(20) أي: رسول الله (.
(21) البخاري(4855).
(22)رواه البخاري (7022) ومسلم (1713).
(23)رواه البخاري (4750) ومسلم (2770).
(24)يعني: من كثرة أسفاره.، وقيل لكونه يضرب النساء، ويشهد لهذا المعنى رواية "فرجل ضراب للنساء"، إن صحت.
(25) صعلوك أي فقير.
(26)رواه مسلم (1480).
(27) الضيعة هي المال المعد للتجارة. المعجم الوسيط
(28) أي: ادعى النبوة.
(29)أي: في النبوة.
(30) دلائل النبوة للبيهقي، باب وفد بني حنيفة، (5/331)، ط العلمية.
(31) انظر « سيف الله على من كذب على أولياء الله » ص 58، باختصار يسير.
(32)رواه مسلم (2230).
(33)رواه أحمد واللفظ له(9405) و الترمذي (135) وابن ماجه (639)، ورواه أبو داود (3904) بلفظ: (من أتى كاهناً) ولم يذكر العراف. قال الحافظ ابن حجر: أخرجه أصحاب السنن وصححه الحاكم.... وله شاهد من حديث جابر وعمران بن حصين أخرجهما البزار بسندين جيدين. فتح الباري 10/217
(34)رواه البزار كما في كشف الأستار (3044)، و الطبراني في الكبير (18/162) ولفظه: عن عمران بن حصين أنه رأى رجلا في عضده حلقة من صفر (أي النحاس الأصفر)، فقال له: ما هذه؟ قال: نُـعتت لي من الواهنة. قال: أما إن مت وهي عليك وكلت إليها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من تطير أو تطير له... " الحديث. قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا اسحق بن الربيع وهو ثقة. مجمع الزوائد 5/117
ورواه البزار أيضًا عن ابن عباس كما في كشف الأستار (3043)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (5435) والسلسلة الصحيحة (2195)، وجود إسناده المنذري في كتاب الترغيب والترهيب، كتاب الأدب وغيره، باب الترهيب من السحر وإتيان الكهان والعرافين والمنجمين بالرمل والحصى أو نحو ذلك وتصديقهم.
(35) رواه البخاري (2766) ومسلم (89).
(36) مسند أحمد (1/191)، وابن أبي شيبة (28982) والبزار (1060) وأبو يعلى (861) والبيهقي في الكبرى (16275) وغيرهم، وإسناده صحيح. والحديث أصله في صحيح البخاري (3087) بدون ذكر قتل السحرة، ولفظه: عن بجالة قال: كنتُ كاتباً لجَزْء بنِ مُعاويةَ عمِّ الأحنفِ، فأتانا كتابُ عمرَ بنِ الخطاب قبلَ مَوته بسنة فَرِّقوا بينَ كلِّ ذي مَحرم منَ المجوسِ. ولم يَكن عمرُ أخذ الجزيةَ منَ المجوس».
(37) أي قطع.
(38) باب: جندب، (التاريخ الكبير) (2/205) وابن عساكر في تاريخه 11/311
(39) كتاب الترغيب والترهيب، كتاب الأدب وغيره، باب الترهيب من السحر وإتيان الكهان والعرافين والمنجمين بالرمل والحصى أو نحو ذلك وتصديقهم.
(40) رواه أحمد (2844) أبو داود (3905) وابن ماجه (3810)، معنى زاد ما زاد: قيل: أي زاد من السحر ما زاد من النجوم. قال الشوكاني في نيل الأوطار4/339: قوله: «زَادَ مَا زَادَ» أي زاد من علم النجوم كمثل ما زاد من السحر، والمراد أنه إذا ازداد من علم النجوم فكأنه ازداد من علم السحر. وقد علم أن أصل علم السحر حرام والازدياد منه أشد تحريماً. فكذا الازدياد من علم التنجيم.
(41)« العلو » رقم 464، ط مكتبة أضواء السلف، وكذا ذكره في كتاب « العرش » ص 93-94، وصححه، ط دار الكتب العلمية.