ضرورة التثبت قبل رفع الخبر لولي الأمر.. الهدهد أنموذجا

ضرورة التثبت قبل رفع الخبر لولي الأمر.. الهدهد أنموذجا
ناصر أحمد العاهمي



إن من سنن الله - تعالى - في هذه الحياة تدافع الخير والشر وهذا يجعل المسئولية الملقاة على عواتق المحتسبين عظيمة، إلا أنه في بعض صور الاحتساب يجد المحتسب نفسه عاجزاً عن تغيير المنكر كأن يصبح أمراً عاماً لا يستطيع مواجهته، وهنا تأتي وظيفة ولاة أمور المسلمين الذين تولوا قيادة الأمة وسياسة دنياها وفق الدين وتكون وظيفة المحتسب هي إبلاغهم عن المنكر ومن ثم يكون احتسابهم، وفي قصة الهدهد مع سليمان - عليه السلام - ما يوضح سبيل التعامل في مثل هذه القضية، فحينما تفقد سليمان - عليه السلام - الطير لم يجد الهدهد فغضب لذلك وأقسم على أن يعاقبه بنتف ريشه أو ذبحه إلا أن يأتي بحجة مقبولة تبين سبب غيابه قال - تعالى -: (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) وكان هذا بدء القصة مع الهدهد الذي جاء وبين حجته وبرهانه فقال: (أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) فيا ترى ما هو هذا النبأ اليقين الذي جعل الهدهد يقول لسليمان - عليه السلام - أحطت بما لم تحط به؟ إنه ما ذكره في قوله: (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ....) إلى قوله: (يسجدون للشمس من دون الله). فما يرفعه المحتسب لولي الأمر من المنكرات يجب أن يكون يقيناً بعيداً عن الحدس والتخمين والأخذ بالظنون الكاذبة، ولما كان تغيير المنكر لا يتأتى إلا بتحديد مكانه حدده بأنه واقع في مملكة سبأ ثم مضى يصف شأنهم في دنياهم من أن امرأة تملكهم ونكَّر لفظ (امرأة) وقدمه على الفعل (تملكهم) تعجباً من حالهم أن ملَّكوا عليهم امرأة قد أوتيت من كل ما يؤتاه الملوك وزيادة على ذلك فلها عرش مرصع بالجواهر والدرر بهر الهدهد فوصفه بأنه عظيم. ثم انتقل كلامه ليصف المنكر الذي وقع فيه هؤلاء القوم فقال: (وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) فليس المستغرب ما سبق من أن امرأة تملكهم ولكن موطن الغرابة هو أنهم قوم مشركون يعبدون الشمس من دون الله - تعالى -وعبادتهم لها هي السجود حين طلوعها وغروبها في جماعة كما قد يفهم من واو المعية في قوله: (وقومها). وفي الحديث: (صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار... ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار) [1] وهذا السجود ليس لهم عليه برهان إنما هو محض تزيين الشيطان وإغوائه ولذلك قال: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ) وهنا بدأ الهدهد في بيان أدلته وذكر براهينه على أن معبوده وهو الله - سبحانه - مستحق للعبادة دون من سواه وهذا يلفت نظر المحتسب إلى أمر هام وهو التسلح بالبراهين التي تبين صدق دعوته فقال: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فوصف ربه جل في علاه بالقدرة التامة العظيمة التي من آثارها إخراج كل مخبوء في السماوات ومنه المطر وكل مخبوء في الأرض ومنه النبات.
كما وصف معبوده بالعلم المحيط بكل شيء ومن ذلك علم ما يخفيه الإنسان في نفسه أو يعلنه ويظهره لغيره وذلك في علم الله - سبحانه - مستوٍ كما قال الله - تعالى -: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ).
وحينما قال الهدهد ما قال وبين حجته ولما كان سليمان - عليه السلام - قد هدده بالعقوبة فقد يُظَن أنه ذكر ما ذكر لينجي نفسه من العذاب والمنطق السليم في مثل هذه الحالة أن يطالَب المحتسب بإقامة الدليل على قوله حتى لا يؤاخذ من لا يستحق فيكون ذلك ظلما له قال سليمان: (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) فجعل علامة صدقه رجوعه بِرد جواب من أرسل إليهم، وامتثل الهدهد الأمر وذهب بكتاب نبي الله سليمان ومحتواه ما قال الله - سبحانه -: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) إنها عبارة موجزة تبين المراد فالمطلوب من صاحب المنكر حين يراسل أن يأتي إلى ولي الأمر فينظر في قضيته ويستيقن من خبره.
وليس كل صاحب منكر يكون خفيف العقل بل حتى أصحاب العقول تغلبهم نفوسهم ويزين لهم الشيطان عمل المعصية وهذا ظاهر من أمر هذه المرأة التي يدل كلامها على رجاحة عقلها قال - تعالى -عنها: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ).
فقد وصفت الكتاب بأنه كريم وسبب ذلك كما قيل: لأنه كان مختوماً[2]. ثم جمعت أشراف مملكتها واستشارتهم بعد قراءتها للكتاب عليهم، وهذا يدل على معرفتها بما تساس به البلاد، فمبدأ الشورى من أهم المبادئ التي ينبغي على كل عاقل فضلاً عن أن يكون ملكاً ألا يغيب عن كل أمر أهمه ولم يعرف الصواب فيه وذلك لأن المستشير يجمع إلى عقله عقولاً وإلى رأيه آراءً ولذلك أُمِر به نبينا - صلى الله عليه وسلم - في قوله - تعالى -: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) فامتثل الأمر وشاور أصحابه في بدر والخندق كما معلوم من سيرته - عليه الصلاة والسلام -، وما أحسن ما قيل:
شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما *** وإن كنت من أهل المشورات
ومما يدل على رجاحة عقلها وحسن سياستها أيضاً معرفتها بأحوال الملوك وأن الغالب منهم لخصمه يذله ويستعبده ولذلك صدقها الله - سبحانه - بقوله: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)[3] ومما يدل على ذلك إرسالها الهدية وانتظارها جواب من أرسلته بها؛ فإن قبل الهدية كان ذلك مدخلاً إلى قلبه، ودليل رضاً منه لما هم عليه من المنكر، وكثيراً ما تمرر المنكرات بمثل هذه الطريقة فينتبه لها من ولاه الله من أمر الأمة شيئاً وقد جاء في الحديث: ((هدايا العمال غلول))[4] وقال قتادة: "رحمها الله ورضي عنها ما كان أعقلها في إسلامها وفي شركها علمت أن الهدية تقع موقعًا من الناس"[5].
وهنا يأتي دور ولي الأمر الصالح فيرفض الهدية المبطنة بالمكر ويغير الأسلوب المتبع من مراسلة إلى تهديد ووعيد إن لم يقلع صاحب المنكر عن غيه؛ قال - سبحانه -: ((فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) أي: أتصانعونني بمال لأترككم على شرككم وملككم؟! فالذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أعطاكم بل أنتم من ينقاد للهدايا، أما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف[6]، ثم أمر الرسول بإرجاع الهدية وحينما علمت أن الأمر جد حثت السير ويممت وجهها قبل الشام لتجيء وقد سبقها عرشها في كرامة إلهية لسليمان - عليه السلام - قابلها بالشكر والاعتراف بالفضل لربه جل في علاه: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) وحينها أمر لها بامتحان الذكاء والحزم: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ) فكانت الإجابة: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) والنتيجة: (وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ) فلم يكن كفرها لقلة عقل أو غباء فهي في غاية الذكاء وإنما سبب ذلك هو أنها نشأت في بيئة كفر وكانت من قوم كافرين؛ ولذلك حين تبين لها الحق أذعنت وانقادت له: (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
فدرس الاحتساب من هذه القصة أن المحتسب إذا لم يستطع أن يغير المنكر فليرفعه إلى ولي الأمر مبيناً مكانه متحرياً الصدق وعدم المبالغة في وصف المنكر ولولي الأمر إن بدا له ما يبعث على الريبة في قول من رفع إليه أن يتثبت وإلا فالأصل صدقه، ثم يعامل صاحب المنكر بما يستحقه، ويأطره على الحق أطراً والله أعلم.
________________
[1] صحيح مسلم (2/208).
[2] تفسير الطبري (19/455).
[3] تفسير ابن كثير (6/190).
[4] مسند أحمد (39/14) صححه الألباني انظر: صحيح الجامع رقم: 7021).
[5] تفسير ابن كثير (6/190).
[6] انظر تفسير ابن كثير (6/196)